جيوبوليتيكال فيوتشرز: لعبة شد الحبل في الحرب الليبية

السبت 13 يونيو 2020 03:53 م

لم تكن الودية سمة مميزة للعلاقات بين الدول في الشرق الأوسط الحديث وشمال أفريقيا. وبدلا من ذلك، طغى على تلك العلاقات التنافس في محاولة لبسط النفوذ من الدول الأقوى على الدول الأضعف.

وفي خمسينيات القرن الماضي، كانت سوريا ساحة المعركة الرئيسية في تنافس قوى الشرق الأوسط على الهيمنة الإقليمية.

وفي الستينيات، كانت اليمن الساحة التي حاربت فيها مصر والسعودية للسيطرة والنفوذ بعد انقلاب جمهوري في صنعاء عام 1962. وأصبحت اليمن مرة أخرى ساحة معركة رئيسية عام 2015 حين تحالف السعوديون مع الإمارات ومصر والسودان لوقف تقدم الحوثيين المدعومين من إيران.

وخلال السبعينيات والثمانينيات، ذهب العرب لتسوية خلافاتهم في لبنان المنقسم دينيا وساهموا في تأجيج الحرب الأهلية التي انتهت عام 1989.

وتطلبت الأزمة التي يفرضها صعود الإسلام السياسي وبروز العراق كقوة إقليمية إعادة تركيز الموارد السياسية والعسكرية العربية للتعامل مع التهديدات الجديدة.

وفي عام 2011، أدت الانتفاضات العربية إلى تفاقم الاضطرابات في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وظهرت مسارح جديدة للمنافسة، وتحديدا سوريا وليبيا.

وكما هو الحال في سوريا، حيث كان التدخل الروسي عاملا رئيسيا في تحديد ميزان القوى في الصراع، فقد أثبت التدخل التركي في ليبيا أنه قادر على تغيير قواعد اللعبة.

تفكك ليبيا

في سبتمبر/أيلول 1969، أطاح انقلاب بقيادة "معمر القذافي" بالملكية السنوسية، التي حكمت ليبيا منذ نيل البلاد استقلالها عام 1951.

وتضمن حكم "القذافي" مجموعة من السياسات الخشنة والإعلانات الغريبة. ووضع "كتابه الأخضر" رؤيته لليبيا، التي تضمنت المؤتمرات واللجان الشعبية التي من شأنها تعبئة الشعب في نمط معين من العمل السياسي والاقتصادي.

مارس "القذافي" سلطات استبدادية مفرطة، ومنح مناصب سياسية وأمنية وعسكرية مهمة للأقارب المباشرين والأعضاء الموثوقين من قبيلته "القذاذفة". وحظر جميع أنواع المعارضة السياسية، وقمع الناشطين الإسلاميين. وفي عام 1996، أمر بمذبحة في سجن "بو سليم" قتل فيها 1200 سجين.

لكن "القذافي" اعتبر ليبيا أصغر من أن تحقق طموحاته القيادية. وعندما لم تتحقق آماله برئاسة دولة عربية أخرى، فكر في إعلان نفسه حاكما لأفريقيا، كملك لكل الملوك.

لكن في عام 2011، انتهت آماله في الهيمنة الإقليمية بشكل مفاجئ. وبإلهام من النجاح الأولي للانتفاضة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011، بدأ تمرد في بنغازي، وانتشر إلى العاصمة طرابلس، بعد 3 أسابيع.

وأدى تدخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" إلى سقوط نظام "القذافي" على أيدي المتمردين في أكتوبر/تشرين الأول 2011.

وفشل المجلس الوطني الانتقالي في تحقيق الاستقرار في ليبيا، حيث انقسمت إلى دول صغيرة تديرها الميليشيات المحلية.

وفي أغسطس/آب 2012، تم حل المجلس وحل محله المؤتمر الوطني العام المنتخب حديثا.

وفي عام 2014، أسس الجنرال المتقاعد "خليفة حفتر" "الجيش الوطني الليبي"، وشن عملية "الكرامة" لطرد من وصفهم بالمتمردين الإسلاميين من بنغازي.

وبعد أيام، دعا إلى إجراء انتخابات عامة لتحل محل المؤتمر الوطني العام بزعم تواطئه مع المسلحين. نتيجة لذلك، أصبح لدى ليبيا حكومتان، إحداهما بقيادة المؤتمر الوطني العام في طرابلس، والأخرى في الشرق تعرف باسم برلمان طبرق.

ورفض "حفتر" الاتفاق السياسي الليبي الذي توسطت فيه الأمم المتحدة عام 2015، وتعهد بإعادة توحيد ليبيا تحت قيادته.

واستولى "حفتر" بسرعة على الهلال النفطي الليبي بعد تحالفه مع القبائل في الشرق والجنوب. وفي أبريل/نيسان 2019، أطلق عملية كبيرة للاستيلاء على طرابلس وتفكيك حكومة الوفاق الوطني بقيادة "فايز السراج".

ووصلت قوات "حفتر" إلى ضواحي طرابلس، وبدا أنها على استعداد للسيطرة على المدينة.

وتم دعم قوات "حفتر" بدرجات متفاوتة من قبل السعودية ومصر والإمارات وروسيا وفرنسا والسودان. وتدير الإمارات، المصدر الرئيسي للمساعدة العسكرية لـ "حفتر"، قاعدتين جويتين في منطقة "برقة" الشرقية، واحدة جنوب بنغازي والأخرى جنوب غرب "السرير"، أكبر حقل نفط في ليبيا.

ومنذ عام 2014، أقامت الإمارات جسرا جويا ثابتا، تسارع خلال العام الماضي، لتجديد ترسانة "حفتر" العسكرية. كما ساعدت أبوظبي في إرسال 3 آلاف من المرتزقة السودانيين إلى ليبيا، معظمهم من قوات الدعم السريع، وغطت رواتبهم.

ودفعت السعودية للمرتزقة من مجموعة "فاجنر" الروسية للمشاركة في الهجوم على طرابلس، لكنها فشلت في نهاية المطاف.

ورفض "حفتر" بإصرار الالتزام باتفاقيات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في باريس، ولم يعر المحادثات التي جرت في باليرمو بإيطاليا أدنى اهتمام. وانسحب من مؤتمر برلين للسلام في يناير/كانون الثاني 2020، وضغط من أجل استمرار الهجوم على طرابلس.

لكن في نهاية المطاف، كان تصويت البرلمان التركي على إرسال قوات إلى ليبيا، بعد فشل مؤتمر "برلين"، هو الذي قلب الأوضاع ضد "حفتر".

وبحلول يونيو/حزيران 2020، تم طرد قوات "حفتر" من غرب ليبيا إلى المحيط الخارجي لسرت. وكان للدعم التركي والقطري لحكومة الوفاق الوطني دور فعال في منع "حفتر" من الاستيلاء على طرابلس.

مخاطر مرتفعة

وبالنسبة لجميع القوى الأجنبية المشاركة في الصراع الليبي، فإن المخاطر كبيرة، بالرغم من اختلاف مستوى مشاركتها وأهدافها.

وتعد أهداف الإمارات هناك هي الأكثر طموحا. وتشمل 3 أهداف رئيسية، وهي هزيمة حكومة الوفاق الوطني الموالية للإسلام السياسي، ودفع تركيا للخروج من ليبيا، وإقامة وجود دائم في البلاد كجزء من خطتها للسيطرة على الدول الضعيفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي في مرحلة ما بعد النفط.

ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة الانسحاب من المنطقة، بدت أبوظبي أكثر استعدادا لتحمل مسؤوليات عسكرية أكبر في الخارج. لكن في ليبيا، يبدو أنها قد تجاوزت قدراتها، خاصة عندما واجهت خصما قويا وحازما مثل تركيا.

وتعد أهداف مصر في ليبيا متواضعة نسبيا مقارنة بأبوظبي. ولدى القاهرة مخاوف أمنية خطيرة تتعلق بتسلل الجماعات الإسلامية المسلحة عبر شرق ليبيا إلى مصر.

وتشترك مصر مع ليبيا في حدود يسهل اختراقها بطول 1150 كم، بالرغم من وجود عشرات الآلاف من القوات المصرية في المنطقة.

وأعرب الرئيس "عبدالفتاح السيسي" عن أمله في أن يتمكن من التعاون مع "حفتر" لتأمين الحدود. لكنه عارض قرار "حفتر" بالاستيلاء على طرابلس العام الماضي، لأنه فهم أن تركيا لن تسمح للمدينة بالسقوط.

ويحرص "السيسي" على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع أنقرة، ويفضل بدلا من ذلك إشراك الشركات المصرية في إعادة إعمار ليبيا، والمساعدة في عودة أكثر من 1.5 مليون عامل مصري فروا من الحرب.

كما أن "السيسي" يشعر بالقلق حيال السلفيين المدخليين المدعومين من السعودية وإمكانية ارتباطهم بالحركة السلفية المصرية، التي لم يتمكن من السيطرة عليها بعد.

ويعتبر "السيسي" الحركات الإسلامية العابرة للحدود تهديدا مباشرا لنظامه، حتى لو لم تكن معارضة له. أما السعوديون فلديهم توقعات متواضعة في ليبيا، ويريدون فقط تأمين قدر من التأثير الديني لاحتواء الحركات السياسية الإسلامية هناك.

وبالرغم من دعم "حفتر"، فإن أهداف روسيا وفرنسا في ليبيا متناقضة. ويهتم كلا البلدين بالوصول إلى "فزان" في الجنوب، ولكن لأسباب مختلفة.

وبالنسبة لفرنسا، سيمنحها إقليم فزان إمكانية الوصول إلى دول جنوب الصحراء الكبرى، التي تعد أساسية لسياسة فرنسا في أفريقيا.

وتركز الاستراتيجية الفرنسية في هذه الدول على مكافحة الحركات الإسلامية الراديكالية، ووقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، وتأمين إمدادات الطاقة.

وفي الوقت نفسه، تحرص روسيا على ضمان استمرار فرنسا في الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية، وتريد السيطرة على مسار الهجرة غير الشرعية كورقة مساومة ضد أوروبا.

وبالنسبة لتركيا، فإن نفوذها في ليبيا أمر حاسم لضمان وضعها كقوة إقليمية. ويفسر هذا سبب تبنيها موقفا حازما، حتى توقيع معاهدة الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل بلد لاستكشاف الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.

وتعرف تركيا أن مصر واليونان وقبرص تريد استبعادها من أي صفقة غاز في المنطقة. ومن الواضح أيضا أن تركيا وروسيا توصلتا إلى نوع من التسوية بشأن ليبيا لأن مصالحهما هناك متوافقة إلى حد ما.

ويشير الانسحاب المنظم من طرابلس للمرتزقة من مجموعة "فاجنر" الروسية إلى أن البلدين متفقان على تقسيم الغنائم طالما لا تحاول تركيا التقدم إلى شرق ليبيا، ومن غير المرجح أن تغامر أنقرة شرقا وراء سرت.

واحتلت إيطاليا ليبيا عام 1911. وعملت القوات الأمريكية إلى جانب الإمبراطورية البريطانية في ليبيا ضد القوات الألمانية والإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية.

وفي عام 1943، احتل الفرنسيون فزان، وخلال مؤتمر "بوتسدام" عام 1945، حاول "ستالين" عبثا تأمين الانتداب السوفييتي على طرابلس في غرب ليبيا.

وساعدت الولايات المتحدة البلاد في الحصول على استقلالها عام 1951. ومنذ ذلك الحين، ظهرت كدولة بسيطة. وتشترك مقاطعاتها الـ 3 في القليل من القواسم المشتركة بسبب البنية القبلية لمجتمعها.

وتمكن الملك "السنوسي" من الحفاظ على ليبيا موحدة لأنه كان يتمتع بالشرعية الدينية التقليدية. وهو ينحدر من نسل "محمد بن علي السنوسي"، الذي أسس نظاما دينيا صوفيا في القرن الـ 19، وجذب السكان المحليين عبر الانتماءات القبلية.

وليس من السهل تخيل دولة وحدوية فاعلة في ليبيا خارج هذا السياق. ومن الصعب أيضا أن نتخيل أن القوى الأجنبية ستغادر ليبيا وتتركها لتحديد مستقبلها بنفسها.

المصدر | هلال خاشان/جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الحرب الليبية خليفة حفتر التدخل التركي