«خامنئي».. من الماركسية الإسلامية لـ«شريعتي» إلى أيدولوجيا العداء للشيطان الأعظم

الأربعاء 26 أغسطس 2015 09:08 ص

في نوفمبر/تشرين الثاني 1979، وبينما كانا يستعدان للنوم على سطح مبنى في مكة المكرمة، فإن السياسيين الإيرانيين «هاشمي رفسنجاني» و«علي خامنئي» قاما بتشغيل المذياع للاستماع إلى الأخبار.

وعندما قالت الإذاعة إن السفارة الأمريكية في طهران تمت السيطرة عليها من طلاب غاضبين يطلقون على أنفسهم «أتباع خط الإمام»، كانت الأخبار بمثابة الصدمة لهم، وعلى الفور، أوقف «رفسنجاني» و«خامنئي» رحلتهما، وعادا إلى طهران.

وسواء كانا يعرفان أن مثل هذا الحادث يمكن أن يكون له تأثير كبير على مسار الثورة الإسلامية أم لا، فإنهما عندما وصلا إلى طهران اكتشفا أن «الخميني»، الذي لم يكن على علم بخطة الطلبة لمهاجمة السفارة، قد أيد مبادرة الطلاب وأسماها «الثورة الثانية» من أجل إظهار أهميتها للحكومة الجديدة.

وخلال العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية، وخاصة بعد انتهاء الثوار من تطهير عناصر النظام القديم على مستوى المؤسسات العسكرية الهامة الأخرى، كانت هناك تصدعات كبيرة بين الثوار.

وكان التنافس الرئيسي بين الثوار الإسلاميين واليساريين، وكانت الماركسية قد ظهرت في شكل تهديد خطير للطبقات الدينية في العقود السابقة للثورة، فيما كان رجال الدين التقليديين يحاولون الرد على الماركسية عن طريق تنشيط جهاز لاهوتي وتعزيز شبكتهم الاجتماعية.

ومن جهة أخرى، فإن الحركة الإسلامية كانت مضطرة للتنافس مع الفصائل اليسارية القوية التي كان تمتلك ترسانات أيديولوجية فعالة لتعبئة عدم الرضا بسرعة تجاه مجتمع متطور تميزه طبقات اجتماعية مضادة للنظام الملكي.

إن الإسلاميين بحاجة إلى إثبات أن لديهم ما هو أفضل من الجميع، وعلى النقيض من اليساريين، فإنهم موثوق بهم لأنهم ليسوا منفصلين عن التقاليد، وعلى عكس رجال الدين التقليديين الذين يمكنهم أن يغيروا الوضع الراهن، ويتبنون بشكل كامل الفكر الحديث، ويمتلكون خريطة مفصلة لإدارة الاقتصاد وخلق «الإنسان الجديد».

وكان «علي شريعتي»، الذي توفي قبل عام من الثورة، شكل إلى حد كبير خطاب جميع الثوريين الإسلاميين، بمن فيهم «آية الله الخميني»، مؤسس الجمهورية الإسلامية.

وقد ولد «شريعتي» في خراسان ونشأ في مدينة مشهد، وهي نفس المدينة التي ولد فيها «علي خامنئي» ونشأ، وربط بين الاثنين علاقة صداقة، وعندما وصل نبأ وفاة «شريعتي» في إيران، طلب أصدقاؤه من «خامنئي» تمرير الخبر إلى والد «شريعتي».

كخطيب استثنائي، مثل «خامنئي» نفسه، استخدم «شريعتي» ببراعة إطارا ماركسيا لاختراع تفسير ثوري للإسلام، وبالنسبة له، لا يوجد سوى اثنين من إصدارات التشيع.

النسخة الأولى والمؤيدة للوضع الراهن، يمثلها رجال الدين التقليديين الذين ينادون بالملكية والفصل بين الدين والسياسة، والنسخة الثانية تسمى «التشيع الأحمر»، وهو المذهب الشيعي الثوري صاحب الديناميكية الاجتماعية السياسية، والتي تهدف إلى تقويض النظام القائم وإقامة نظام اجتماعي وسياسي عادل.

وتكرر هذا الثنائي من قبل «الخميني» لمدة سنوات في وقت لاحق عندما تحدث عن تناقض «الإسلام الأمريكي» مع «الإسلام المحمدي الخالص». الأول يمثله كل من رجال الدين التقليديين والحكومات العربية التي لا يوجبون أن يُحكم المجتمع بالإسلام وفقهائه، وبالتالي لا يشكلون تهديدا لقوى الشر في العالم، وخاصة الولايات المتحدة.

الإصدار الثاني هو الإسلام الثوري، الذي يدعو إلى تغييرات جذرية في المجتمع من أجل تطبيق الشريعة وجعل الزعماء الدينيين هم القادة السياسيون.

هذا الظهور لليسار الإسلامي اقتبس جوهر الفكر الماركسي مكيّفًا معها المفاهيم الاسلامية، وعلى سبيل المثال، فقد استبدلوا البروليتاريا بالفكرة الإسلامية للأمة (المجتمع العالمي للمسلمين)، مستبدلين الحتمية التاريخية بالعناية الإلهية لجعل الناس المحرومين ملاك الأرض وحكامها، ومبدّلين الصراع الطبقي بآخر بين المظلوم والظالم، والذي من شأنه أن يؤدي إلى انتصار المظلوم في نهاية المطاف.

الماركسية الإسلامية

تفسير «شريعتي» للإسلام هو أفضل مثال على هذه الاتجاهات التي أصبحت شائعة جدا ومألوفة بين الشباب، بما في ذلك رجال الدين الشباب، لأنه اعتمد أيديولوجية اجتماعية واقتصادية حديثة مثل الماركسية دون الحصول على الاقتراب من أي ملوث مادي فلسفي.

هذه القراءة الماركسية للإسلام، أو النسخة الإسلامية للماركسية أثبتت نجاحا كبيرا في تعبئة الشباب من أجل الثورة ومنعهم من أن ينجرفوا خلف الأيديولوجيات الإلحادية للثورة.

وقاد «خامنئي» نفسه دائرة صغيرة من طلاب الجامعات الشباب والطلاب الإكليريكيين في مدينة مشهد، وفي تجمعاتهم تحدث عن «العقيدة الإسلامية» على أساس ما تعلمه من منظري جماعة الإخوان المسلمين مثل «سيد قطب»، الذي تُرجمت كلماته إلى الفارسية، وكذلك أعمال المفكرين الإيرانيين الآخرين مثل «شريعتي».

وعندما نشر «حبيب الله عاشوري»، رجل دين شاب من أعضاء الدائرة، مقالا بعنوان «توحيد الله»، غضب «خامنئي»، ونشأت معركة مريرة بينه وبين «عاشوري» بسبب ادعاء «خامنئي» أن هذا المقال يتكون من ملاحظات أخذها «عاشوري» من محاضراته.

وبعد هذا الاتهام انفصل الرجلان، وبعد وقت قصير من الثورة، تم اعتقال «عاشوري» وأُعدم، وكانت أحد التهم التي وُجهت إليه هرطقته بتلك المعتقدات التي ظهرت في مقال «توحيد الله»، والذي استخدم مبدأ لاهوتي لوضع رؤية إسلامية للمجتمع لا طبقية كتلك التي وعد بها «كارل ماركس».

وتسرق الأيديولوجية الإسلامية العناصر الجذابة للماركسية، وتجعلها في إطار أسطوري إسلامي وتقليدي يشمل أساطير ورموز ومفاهيم، ولغة، وباختصار، فإنها تروضها بحيث تمتلك ليس فقط كل مزايا الماركسية، ولكن ينظر إليها أيضا باعتبارها الأصل وأيديولوجية مقدسة يمكنها هزيمة جميع الأيدولوجيات الدنيوية والمستوردة والغريبة التي جذبت المثقفين المسلمين في القرن العشرين.

وخلال الثورة، كان اليساريون العلمانيون متحالفين مع الإسلاميين، لأنه في هذه المرحلة كان الهدف هو إسقاط الشاه وتمكين معاداة الإمبريالية.

كان مقارعة الاستعمار أوالعداء للولايات المتحدة آلية فريدة لجذب الشباب، ولم يكن لليساريين الثوريين الإسلاميين أوالدينيين أي خيار سوى اعتماد هذه الآلية ودمجها في الفكر الإسلامي أيضا.

ومن أجل إثبات الأصالة، فإن الفكر الإسلامي اختار في بعض الأحيان نهجا أكثر عدوانية أو جرأة لقيم وأعداء مشتركة، أو لخلافات مع الماركسية. إذا كان الماركسيون هم المناهضون للولايات المتحدة، فيتعين على المسلمين اليساريين أن يكونوا أكثر فعالية وإخلاصا في مناهضتهم للولايات المتحدة من أجل الفوز والمنافسة.

«أتباع خط الإمام»، أي الطلاب اليساريين الإسلاميين الذين استولوا على السفارة، فازوا بالمعركة السياسية على جبهتين: هزموا القوميين المسلمين الذين لم يكونوا مناهضين للولايات المتحدة ولم يكونوا ثوريين، ولكنهم استُغلوا من قبل «الخميني» لتسهيل الانتقال من النظام القديم إلى الحكومة الجديدة، وهزموا اليساريين الآخرين الذين لم يكونوا ينوون استيعابهم بالكامل من قبل معسكر «الخميني».

وكان الدافع وراء الاستيلاء على السفارة الأمريكية في الغالب هو تغيير معادلة القوة الداخلية، وكان لديهم الكثير ليفعلوه مع السياسة الخارجية على هذا النحو.

السيطرة على الثورة

ولكن الإسلاميين المؤيدين للخميني لم يفوزوا بالمسابقة من خلال قوة أفكارهم ونقاشهم الفكري،.. بعد الثورة، فاز الإسلاميون المؤيدون للخميني بالمعركة لمدة ثلاث سنوات ضد منافسيهم من خلال حظر أحزابهم، وإغلاق صحفهم، وإجبارهم على مغادرة البلاد وسجن كل من يعلن انتمائه لهم، كما تم إعدام المئات من أعضائهم وقادتهم رفيعي المستوى. ولم تكن الكلمات هي التي أنهت المنافسة، بل البنادق ومفاتيح السجن.

ولم تكن هذه نهاية كل الشقوق والتصدعات في الحكومة التي أنشئت حديثا، فقد انقسم الإسلاميون أنفسهم إلى معسكرين: يمين، أولئك الذين كانوا على اتصال بالأسواق أو درجة رجال الأعمال التقليدية، الذين كانوا أيضا الممولين التاريخيين الرئيسيين للمنشآت والمؤسسات الدينية، ويسار، وهم الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة المتوسطة التي تم إنشاؤها أو أُعيد تشكيلها عن طريق حداثة «بهلوي»، المرتبطة بالجامعات ولديها صلات قوية بالجماعات اليسارية التي تم قمعها.

وفي حين أن «خامنئي» كان يميل إلى الفكر اليساري، فقد كان قريبا من رجال السوق، ويعارض الجناح اليساري، وخاصة فيما يتعلق بجدول الأعمال الاقتصادي الخاص بهم.

وشهد العقد الأول من الجمهورية الإسلامية ذروة قوة الإسلاميين اليساريين، وخلال رئاسة «خامنئي»، سيطر رئيس الوزراء اليساري «مير حسين موسوي» على السلطة التنفيذية في حين كان «خامنئي» صوريا.

وعلى الرغم من أن «خامنئي» لا يتفق مع «موسوي» بشأن برنامجه اليساري لدولة الرفاهية فضلا عن قضايا أخرى، إلا إنه لم يكن قادرا على استبعاده أو تقييده، وبينما يتحدث الآن عن التقارب مع الولايات المتحدة على أنها جزء من المحرمات، فقد حذر «خامنئي» سرا من تداعيات العداء الأمريكي الإيراني على مستقبل البلاد.

وعندما مات «الخميني» في عام 1989، وصفت وسائل الإعلام الغربية خليفته، «على خامنئي»، بالشخصية القيادية المعتدلة التي ربما تفتح أبواب جديدة لإيران مع الغرب.

ورغم ذلك، فقد كانت نافذة الأمل الغربية أكثر ما يشغل بال اليسار الإيراني ويقلقه، ولم يكن «علي خامنئي»، البالغ من العمر آنذاك 50 عاما، بالسياسي القوي ولا الشخص المتدين الذي لديه أوراق اعتماد تؤهله.. ومسألة تعيينه كمرشد أعلى كانت بسبب الحقيقة السائدة آنذاك أنه لا أحد يتوقع العثور على قائد بنفس كاريزما الأب المؤسس للجمهورية الإسلامية.

وحيث أن اليساريين يمكنهم أن يعملوا على إضعاف «خامنئي» من خلال تصويره على أنه مؤيد لليمين الموالي للولايات المتحدة وغير مؤهل لخلافة الزعيم المسلم المناهض للولايات المتحدة بشكل اتسم بالصراحة خلال القرن العشرين، وبالتالي فإنه يصبح غير قادر على أن يكون الحامي الحقيقي لتراث الثورة، لكنه كان مبادرا بتغيير وضعه.

ومن أجل تعزيز سلطته ونزع سلاح النقاد، أصبح مناهضا للولايات المتحدة، وبات من أعلى الأصوات المناهضة لها في السياسة الإيرانية.

ونظرًا للديناميكية الإيرانية الداخلية وأيضا التراجع العالمي للشيوعية، بدأ اليساريون المهمشون مراجعة أفكارهم والمواقف السياسية، وأصبح اليساريون العاجزون يضمون بين صفوفهم إصلاحيين ورجعيين، دافعوا جميعا عن الانفراجة في العلاقات مع الغرب، وحاولوا كسر المحرمات في العلاقات مع الولايات المتحدة، في حين أن العديد من الطلاب أنفسهم الذين صعدوا على جدران السفارة الأمريكية بدأوا في الكتابة عن قيم الديمقراطية الليبرالية، مثل التسامح والتعددية والمجتمع المدني وحرية التعبير، وكانت تلك هي النواة الصلبة للنظام المناهض للولايات المتحدة.

العداء للولايات المتحدة كأيدولوجيا سياسية

وبصفته رئيسا، لم يكن «خامنئي» سعيدًا بفتوى «الخميني» ضد «سلمان رشدي»، وحاول أن يجد حلا لرفض الفتوى، ولكن «الخميني» نهره علانية، كما أيد أيضا العناصر القوية التي حاولت منع البرلمان من قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا بعد الثورة.

وعلاوة على ذلك، عندما أراد رئيس الوزراء اليساري دعم الفقيه الحاكم لإصدار أمر تنفيذي لتطبيق لوائح صارمة على أصحاب العمل، عارض «خامنئي» هذا النهج اليساري، وقال في خطاب علني إن سلطة الفقيه الحاكم ليست غير محدودة.

وعلى الفور ندد «الخميني» بفهمه الضعيف لولاية الفقيه، ولكن هذا تغير عندما أصبح «خامنئي» المرشد الأعلى نفسه.

ومن المفارقات، عندما أصبح خليفة «الخميني»، لم يقم فقط بتأييد الفتوى، ولكنه دعا أيضا إلى السلطة المطلقة للفقيه الحاكم (هو نفسه الآن). وأصبح بامتياز المناهض للولايات المتحدة، وباتت كلمة العدو في البلاد تعني أمريكا، كما صارت المصطلح الأكثر شيوعا في أدبه.

وبالنسبة لـ«خامنئي» كمرشد أعلى، فإن العداء لأمريكا شيء يتجاوز الأيديولوجية، معتقداته الحقيقية ثانوية من حيث الأهمية لتلك التي تجعل منه أكثر قوة، العداء للولايات المتحدة الأمريكية هو أحد المكونات الرئيسية لهويته السياسية، والتخلي عن العداء للولايات المتحدة ليس فقط يعني الحقد عليها وكراهيتها، ولكن الأهم من ذلك، التحصن ضد خصومها المحليين والنقاد في المعركة التي بدأت في 1989، وتستمر حتى اليوم.

وفيما يتعلق بنهجها تجاه تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، يمكن للجمهورية الإسلامية أن تتغير، كما فعلت جمهورية الصين الشعبية، ولكن ليس تحت قيادة «آية الله خامنئي».

  كلمات مفتاحية

خامنئي الخميني الثورة الإسلامية علي شريعتي أحمدي نجاد

«بروجيكت سينديكت»: أفول عهد «الثورة الإسلامية» وراء نجاح المفاوضات النووية

«خامنئي»: الاتفاق النووي لن يسمح بأي نفوذ أمريكي في إيران مطلقا

أفول أساطير الهيمنة الإيرانية

«بوليتيكو»: «خامنئي» أكثر المتشبثين بالاتفاق النووي رغم تصريحاته المتشددة

«خامنئي» يتعهد بموقف نووي صارم ويلوح بتقليص صادرات الغاز

اعتقال موزعي ثياب عليها أعلام أمريكية وبريطانية في طهران

«خامنئي»: لا مفاوضات مع الأمريكيين خارج الملف النووي

إيران.. هل بدأت معركة خلافة «خامنئي»؟