المأزق المركب للتدخل العسكري الروسي في سوريا

الجمعة 9 أكتوبر 2015 06:10 ص

يعد التدخل الروسي في سوريا خطوة غير مسبوقة في علاقات روسيا مع بلدان الشرق الأوسط. ومع بدء الغارات الجوية الروسية وقصف مواقع المعارضة بدا واضحا الانقلاب في السياسة الخارجية الروسية في التعامل مع القضية السورية، والتراجع عن مبادئ السيادة الوطنية، وعدم جواز التدخل الخارجي، والتي طالما تشبثت بها روسيا في الأعوام الأخيرة في دفاعها عن نظام الرئيس بشار الأسد وحلفائها الآخرين.

ولا يصعب التكهن بفشل سياسة الكرملين المستجدة في منطقة الشرق الأوسط، فـقرار البدء بأي عملية عسكرية سهل جدا مقارنة بالنتائج المتوقعة، وتطورات الوضع ميدانيا، والارتدادات على العلاقات المستقبلية مع اللاعبين الإقليميين والدوليين، وكيفية وشروط وضع النقطة الأخيرة في أي تسوية لإنهاء التدخل.

خطأ استراتيجي

استبق الكرملين التدخل بالحصول على مباركة من النظام السوري بشن غارات ضد المعارضة، وإخطار الولايات المتحدة بالضربة، وتنسيق مسبق مع تل أبيب أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو الشهر الماضي. وداخليا وبالإجماع كما جرت العادة، خول البرلمان الروسي الرئيس فلاديمير بوتين حق استخدام القوات المسلحة خارج الحدود، للمرة الثانية منذ أحداث القرم وجنوب شرق أوكرانيا ربيع العام الماضي.

وتتباين التحليلات حول أهداف ودوافع التدخل الروسي وحدوده، فالتأكيد على أن الأمر سيقتصر على ضربات جوية تدحضه أنباء عن حشود متطوعين روس للقتال في سوريا، واستدعاء للاحتياط.

ويذهب البعض إلى أن التدخل مدعوم بغطاء إقليمي ودولي لفرض خطوط تهدئة مؤقتة، ويدفع باتجاه إضعاف تدخل إيران وحزب الله، وإضعاف المعارضة السورية في آن، ويهدف لاحقا إلى إجبار جميع الأطراف، بما فيها النظام، على القبول بحل سياسي وفق مبدأ لا غالب ولا مغلوب. فيما يرى فريق واسع أن التدخل يهدف إلى الحفاظ على مواقع روسيا في آخر موطئ قدم لها في المياه الدافئة شرق المتوسط، وتعزيز حضورها في المنطقة، والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.

ويفاخر أنصار «الممانعة» بأن روسيا باتت جزءا من المحور الممانع مع إيران وحكومة بغداد وسوريا وحزب الله ودخلت حرب كسر عظم مع الغرب، وأنها جاءت لإنقاذ حليفها الاستراتيجي في دمشق.

أيا كانت الأسباب والدوافع فمن الواضح أن التدخل لا يصب في مصلحة موسكو من الناحية الاستراتيجية، ففي حال كان الهدف إنقاذ نظام الأسد فإن الانتصار يعني التحالف مع رئيس ضعيف يقود مليشيات ويحارب أخرى، في بلد مدمر يحتاج حسب تقديرات أممية إلى أكثر من 200 مليار دولار لإعادة بناء ما دمرته الحرب الأهلية.

في المقابل فإن روسيا سوف تجد نفسها، ربحت أم خسرت، في صف أعداء بلدان الخليج العربي وتركيا التي لا ترى أي دور للأسد في مستقبل سوريا، وفي مواجهة مفتوحة مع العالم الإسلامي والغرب على حد سواء.

من جهة أخرى فإن استهداف معارضي الأسد والتدخل السافر سوف يحفز الجهات الداعية إلى الجهاد ضد الروس في داخل سوريا، أو ضرب المصالح الروسية في المنطقة أو حتى في داخل روسيا نفسها، وفي المحصلة فإن موسكو يمكن أن تصبح تحت سيف الإرهاب المسلط في أي لحظة في محاكاة للأوضاع التي شهدتها في الولايات المتحدة وأوروبا عقب حروب الغرب الفاشلة في أفغانستان والعراق.

ويجب عدم إهمال العامل الإسلامي في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، وفي جمهوريتي الشيشان وداغستان اللتين تعدان خاصرة روسيا الضعيفة في القوقاز. وحسب تقارير أجهزة الأمن الروسية فإن أكثر من 2000 شيشاني و4000 من بلدان آسيا الوسطى يحاربون في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية.

دروس الحروب الاستباقية

الرئيس الروسي أعلن صراحة، في تصريحات لمحطتي «سي بي إس» و«بي بي إس» الأميركيتين قبل أيام من بدء أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن ما يدفع بلاده إلى دعم بقاء الأسد يتمثل في أن «هناك في سوريا أكثر من 2000 مقاتل من الاتحاد السوفياتي السابق».

وأضاف أنه «ثمة خطورة في أن يعودوا إلى بلادنا، والأفضل أن نساعد الأسد على قتالهم هناك في الأراضي السورية، ولا ننتظر لحين عودتهم إلينا، هذا هو أهم دافع لمساندة الأسد».

التصريح يكشف أن موسكو بدأت بنهج شن الحروب الاستباقية، وللمفارقة كان هذا النهج محط انتقاداتها للتعامل الأميركي مع العراق ويوغسلافيا السابقة وليبيا، ولكن الأهم ربما هو أنها لم تستوعب أخطاء الدرس الأميركي في مكافحة الإرهاب، فالخطر انتقل إلى شوارع الولايات المتحدة وأوروبا، ولن تكون موسكو في مأمن من ذلك، ولن تتوقف حملات التجنيد للقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في روسيا، من دون معالجة الأسباب الحقيقية للصراع في سوريا، ومعالجة أسباب الإرهاب الحقيقية.

وتكشف المواقع المستهدفة من قبل الطيران الروسي بعضا من أهداف موسكو التي لا تميز بين أنواع المعارضات وتنظيم الدولة الإسلامية، فالكل إرهابيون حسب بوتين ولافروف الذي ينفي في آخر تصريحاته أصلا وجود الجيش الحر. ويظهر أن موسكو سارعت إلى دعم النظام إثر تراجعه الكبير منذ بداية العام الحالي أمام المعارضة التي وصلت إلى مشارف بيئته الحاضنة وخزان جيشه، في منطقة الساحل السوري.

وتوضح مواقع الضربات أن روسيا تحاول المحافظة على «سوريا المفيدة» لها ولحلفائها، الممتدة من دمشق إلى الساحل مرورا بالقلمون وحمص، ما يسمح باستمرار التواصل مع حزب الله في لبنان، مع لفت الانتباه إلى تأكيدات بوتين لنتنياهو على أن النظام ليس قادرا على فتح جبهة مع إسرائيل من الجولان.

ولا يمكن إخفاء هدف الضربات الروسية الحقيقي عبر التمويه باستهداف بعض مواقع تنظيم الدولة الإسلامية، فمعظم الغارات كان من نصيب الجيش الحر وكتائب إسلامية متحالفة معه، ولم تلحق ضررا يذكر ببنية تنظيم الدولة، رغم ما تكرره الماكينة الإعلامية الروسية، وتلك المحسوبة على محور الممانعة.

ومن نافلة القول أن الضربات الروسية تضعف المعارضة الديمقراطية والمعارضات المعتدلة، وتقوي المتشددين في محاولة لتكرار أقاويل النظام بأن أساس الأزمة في سوريا هي حرب بين متطرفين إسلاميين ونظام علماني. ولكن الواضح أن موسكو لن تستطيع فرض حل يعود بسوريا إلى ما قبل مارس/آذار 2011، يثبت مواقع الأسد، أو يضمن لها وجودا مستقرا في قاعدة طرطوس، أو قواعدها الجديدة التي شرعت ببنائها تحضيرا للضربة الحالية.

فتور وتصدير للأزمات

خلافا لحالة الإجماع الشعبي الذي حظي به تدخل بوتين في القرم، ربيع العام الماضي، يُظهر الشعب الروسي فتورا فيما يخص سوريا. فحسب استطلاعات مركز «ليفادا» الروسي يعارض نحو 69% من المواطنين إرسال قوات عسكرية إلى سوريا. وتعلو أصوات كثيرة تحذر من تأثير التدخل العسكري على مزاج المسلمين الذين يشكلون أكثر من خُمس سكان روسيا، وينظر كثير منهم إلى نظام الأسد كنظام قاتل لشعبه.

ومما يزيد الطين بلة دخول الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على خط الصراع، واعتبار التدخل في سوريا حربا مقدسة، مما يفتح الطريق للمرة الأولى أمام خلافات بين الجانبين الروسي والعربي على أساس ديني، ويُسقط قيادة روسيا في فخ وقع به الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، ويفتح على شقاق على أساس ديني بين المواطنين الروس.

في أثناء الحملة الانتخابية في 2012، وفي إطار لعبة تبادل الكراسي مع ديمتري مدفيديف، نشر بوتين مقالات عدة في الصحف الروسية ركز أحدها على دور روسيا العالمي، وأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان كارثة عظمى، ودعا أيضا إلى دور عالمي أكبر لروسيا في العالم.

الهدف المعلن من المقالة كان حشد الشعور القومي، وبعث الحنين لأيام القوة في عهد الاتحاد السوفياتي، لكن الهدف الآخر يكمن في لفت الأنظار عن عجزه بالنهوض بالاقتصاد الروسي وتخفيف اعتماده على النفط والخامات، والإخفاق في محاربة الفساد وبناء مؤسسات قوية، والخلل الكبير في النظام القضائي. وبدا واضحا أن الكرملين يستخدم ورقة التعصب القومي لحل أزماته ويطلق الاتهامات لقمع المعارضين أو المنتقدين للسياسات الاقتصادية والاجتماعية.

إزاء ذلك وجدت النخب الحاكمة ضالتها في تصدير المشكلات إلى الخارج. ومع الأزمة الأوكرانية بداية العام 2014، وضم بوتين لشبه جزيرة القرم ودغدغة المشاعر القومية ارتفعت شعبيته إلى مستويات قياسية رغم التراجع الاقتصادي الكبير وانهيار سعر صرف الروبل، وارتفاع التضخم وزيادة أعداد الفقراء.

وبعد الآثار الكارثية على الاقتصاد الروسي، بسبب العقوبات الغربية وانهيار أسعار النفط إضافة إلى الجمود في الوضع الأوكراني، يبدو أن موسكو قررت خوض مغامرة جديدة، لكنها على عكس سابقتها لا تحظى بإجماع كبير، وقد تدخل الكرملين في دوامات يصعب الخروج منها.

من سيكسب الحرب؟

ورغم توق بوتين إلى عودة الأمجاد الإمبراطورية والسوفياتية فإن الواقع العالمي الحالي وأوضاع الاقتصاد الروسي، الذي لا يتجاوز 3% من حجم الاقتصاد العالمي، لا يسمحان له بذلك. فروسيا سحبت قواعدها من كوبا وفيتنام وغيرها بسبب نقص الموارد.

واليوم فإن أي زيادة في حجم الإنفاق العسكري يعمق جراح الاقتصاد المثخن أصلا بنفقات دفاعية تتجاوز خُمس الموازنة على حساب التعليم والصحة وغيرها، علما بأن حجم الإنفاق العسكري الروسي على كبره، بلغ 84 مليار دولار في العام الماضي مقابل 610 مليارات في الولايات المتحدة، من دون حلفائها الإقليميين والدوليين، ولهذا فإن مرابطة القوات الروسية في المياه الدافئة، وتثبيت حضورها في سوريا مقابل الحضور الغربي في الخليج، مكلف جدا وليس في مقدور الكرملين.

إن تدخل روسيا العسكري في سوريا يدخلها في حرب لن تحسم بالضربات الجوية، وربما امتدت ساحاتها إلى شوارع المدن الروسية، رغم تركيز محطات التلفزة الروسية على أن الطقس في سوريا في أكتوبر/تشرين الأول مناسب جدا للطلعات الجوية «في ظل سماء صافية من دون غيوم»، وامتداحها اختيار القيادة للموعد.

ومن المؤكد أن الكرملين لن يستطيع مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام، وافتعال أزمات خارجية، للتغطية على مشكلاته الداخلية وتراجع الاقتصاد، خاصة أن التدخل في سوريا سوف يزيد عزلة روسيا دوليا، وسيؤدي إلى تراجع فرصها في بناء علاقات شراكة قوية مع البلدان العربية والعالم الإسلامي، بينما لا توجد ضمانات تؤكد قدرة روسيا على إنقاذ نظام الأسد.

  كلمات مفتاحية

روسيا التدخل العسكري الروسي سوريا الشرق الأوسط الغارات الجوية الروسية الأسد بوتين

روسيا: نعتمد على استخبارات «الأسد» والعراق وإيران لقصف أهدافنا في سوريا

روسيا تدعم القوات السورية في أول هجوم كبير منسق على المعارضة

(إسرائيل) وروسيا .. تقاطع انتهازي في سورية

الاستيلاء على دمشق: كيف تقدمت روسيا إلى الأمام في الشرق الأوسط؟

لماذا تصر روسيا على دعم «بشار الأسد»؟

لماذا ستضطر الولايات المتحدة إلى العمل مع روسيا في الملف السوري؟

«كارتر»: روسيا ستدفع قريبا ثمن تدخلها العسكري في سوريا

«الصبر الاستراتيجي»: لا تطاردوا «بوتين» في سوريا .. دعوه يفشل من تلقاء نفسه

هل تتحول سوريا إلى فيتنام الروسية؟