آخرها اللحم بالتقسيط.. لماذا تواجه مصر صناع المحتوى الساخر؟

السبت 18 فبراير 2023 08:58 ص

لم يمر مقطع فيديو انتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، يظهر أحد المواطنين وهو "يبشر" بأن اللحمة أصبحت متاحة لهم، بعد أن قرر أحد أصحاب محلات الجزارة بيع اللحمة لهم بالتقسيط، مرور الكرام على السلطات المصرية، التي ألقت القبض عليه بتهمة نشر أخبار كاذبة.

هذا الفيديو ومال جرى مع صاحبه يعيد إلى الأذهان سيناريو متكررا للمصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذا قرروا تصوير وبث مقاطع فكاهية أو ساخرة من أوضاعهم الاجتماعية.

وحسب الفيديو، فإن الحاج شريف الزلاط صاحب أحد محلات الجزارة في دمياط (شمال) قرر بيع اللحمة لهم بالتقسيط، لكن ضمن شروط، يمكن حصرها بدفع مقدم قيمته 50 جنيها، والتوقيع على إيصال أمانة، وإحضار صورة من بطاقة الرقم القومي، ودفع قسط أسبوعي بمقدار 20 جنيها.

وإمعانا في السخرية، أعلن المواطن (صاحب الفيديو) عن هدية لكل من يشتري لحمة بالتقسيط من محل جزارة الزلاط، وهي عبارة عن قطعة "عظم" تصلح لعمل الشوربة، مؤكدا أن أسعار اللحمة بالتقسيط لن تزيد على أسعارها بالبيع النقدي.

وعقب انتشار الفيديو، أعلنت الداخلية المصرية القبض على صاحب الفيديو، قائلة إنه تم ضبط أحد الأشخاص في دمياط لادعائه خلال مقطع فيديو بيع اللحوم للمواطنين بالتقسيط، ونشر أخبار كاذبة.

وحسب بيان الداخلية، اعترف المتهم أن مقطع الفيديو الذي أعده ونشره على سبيل المزاح، وأن نشره مقطع الفيديو كان الغرض منه هو زيادة نسبة المشاهدة.

الزيارة

واقعة دمياط، لم تختلف كثيرا عما وقع قبل أسبوعين فقط، عندما تسبب مقطع فيديو فكاهي في احتجاز 4 من صناع المحتوى المصريين على "تيك توك"، بعد اشتراكهم معاً في تصوير مقطع قصير عن فتاة تزور حبيبها في السجن ومعها صديق له.

وألقت السلطات المصرية القبض على محمد حسام الدين (بسة)، وبسمة حجازي (وردة)، وأحمد طارق (شوكولاتة)، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، وصدر قرار عن نيابة أمن الدولة العليا بحبسهم 15 يوماً على ذمة التحقيق.

الفيديو الذي نشره بسة ووردة قبل تاريخ القبض عليهما بأسبوعين، وحمل اسم "الزيارة"، حقق أكثر من 7 ملايين مشاهدة على تطبيق "تيك توك" ونحو 50 ألفاً عبر "يوتيوب"، وآلاف الإعجابات والتعليقات التي جعلت أبطال مقطع الفيديو الذي لم تصل مدته إلى 4 دقائق، حديث وسائل التواصل الاجتماعي ومحط أنظار السلطات الأمنية حينها.

وظهرت "وردة" في الفيديو الكوميدي بصحبة "شوكولاتة"، خلال زيارة خطيبها "بسة" في قسم شرطة، بعد أن ألقي القبض عليه من الشارع وأودع في "ميكروباص" شرطة، قبل أن تنصرف الفتاة بعد الزيارة، تاركة خطيبها يتغزل بها بعبارات أثارت إعجاب من شاهدوا الفيديو.

وحينها قال مصدر قانوني من هيئة الدفاع إن بطلي الفيديو نفيا وجود أي قصد جنائي من تصوير الفيديو، مؤكدين أنهما يهدفان إلى الإضحاك والانتشار وزيادة كم المشاهدات والتفاعل.

اشتهر "بسة" بنشر محتوى ضاحك على منصات مواقع التواصل بلهجة شعبية، تحقق مشاهدات بالملايين، بينما "وردة" التي ظهرت معه بدأت على "تيك توك" بمقاطع عن الموضة والملابس ومستحضرات التجميل.

وليس لـ"بسة" أو "وردة" أي محتوى يتصل بالسياسة بشكل مباشر، بل تتلخص مقاطع الفيديو المنتشرة لهما في أمور اجتماعية، وإن كانا قد صورا سويا الشهر الماضي، مقطع فيديو يتحدث عن غلاء الأسعار وانخفاض الجنيه أمام الدولار.

ظرفاء الغلابة

وبسبب الغلاء أيضا، ألقي القبض على 3 أشخاص منتصف العام الماضي، معروفين باسم فريق "ظرفاء الغلابة"، بعد أن صوروا أنفسهم أثناء تقليدهم لأغنية ساخرة من غلاء الأسعار، لكن النيابة أخلت سبيلهم بعد أسبوعين من الحبس.

وكان "ظرفاء الغلابة" قالوا أمام النيابة إنهم أنشؤوا تلك القناة بهدف الربح من خلال المتابعات، وإنهم يعملون بحراسة العقارات، ولا علاقة لهم بالعمل السياسي، وهدفهم كان الحصول على أموال من خلال مشاهدات القناة الخاصة بهم، من خلال البحث عن مواضيع تجذب المتابعين.

والمثير أن "ظرفاء الغلابة" عوقبوا على ما يبدو بسبب إعادة تمثيلهم أغنية تسخر من ارتفاع الأسعار، رغم أن الفنان أكرم حسني الشهير بـ"أبو حفيظة" (ضابط شرطة سابق) أدى قبل سنوات الأغنية نفسها التي تستخدم كلمات أخرى على لحن أغنية "نار" للمطرب الراحل عبدالحليم حافظ.

نماذج أخرى سابقة

وفي الحقيقة، وقائع توقيف صنَّاع المحتوى الساخر بمصر كثيرة، بداية من أصحاب النكتة السياسية حتى المقاطع القصيرة المصورة وصفحات "الكوميكس"، ومن أبرزها في السنوات الأخيرة، القبض على رسام الكاريكاتير "إسلام جاويش" عام 2016، وتوجيه اتهامات له برسم كاريكاتير ضد النظام.

وفي العام ذاته، قبضت السلطات على فرقة تعرف بـ"أطفال الشوارع" وحبستهم عدة أشهر، بعد نشرهم مقاطع مصورة قصيرة على منصات التواصل، بدعوى "إهانة (الرئيس المصري عبدالفتاح) السيسي"، في واقعة أثارت جدلا واستنكارًا كبيرًا.

كما ألقي القبض في 2019 على اليوتيوبر الشهير "شادي سرور"، لدى عودته من الولايات المتحدة، قبل أن يطلق سراحه بعد 20 شهرًا من الحبس.

وفي مايو/أيار 2020، توفي الفنان والمصور المصري "شادي حبش" في سجن طرة، بعد أكثر من عامين على اعتقاله، بسبب مشاركته في إعداد أغنية سياسية ساخرة وجهت انتقادات لاذعة لـ"السيسي".

كما أن هناك وقائع احتجاز كان ضحاياها صناع المحتوى على "تيك توك"، مثل الطالبة "حنين حسام" التي تواجه حكماً بالسجن 3 سنوات بتهمة الاتجار بالبشر، وكذلك "مودة الأدهم" التي تقضي حكماً بالسجن 6 سنوات وغرامة 200 ألف جنيه (6560 دولارا أمريكيا) بتهمة الاتجار بالبشر، بعدما قُبض عليهما بموجب قانون الجرائم الإلكترونية الصادر عام 2018، بحسب معهد التحرير لسياسات الشَّرق الأوسط.

كما وقع الكثير من صناع المحتوى خصوصاً النساء، في قبضة السلطات بتهم أخلاقية تتعلق بنشر الفسق والفجور وانتهاك قيم الأسرة المصرية، إذ اعتقلت السلطات نحو 10 من صناع المحتوى حتى عام 2020.

وخلال العام الماضي وسّعت السلطات حملاتها للقبض على صناع المحتوى، وكان اليوتيوبر "أحمد الدسوقي"، الذي اعتاد التمثيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من أبرز الأسماء التي جرى إيقافها، بسبب نشره أفلاماً قصيرة مفبركة يتقمص فيها دور رجال الشرطة، برفقة ثلاثة آخرين وسيدة.

طبيعة النظام

وأصبحت السلطات تنتهج توجيه الاتهامات ذات الطبيعة السياسية إلى المؤثرين وصناع المحتوى على "تيك توك"، وهي الاتهامات نفسها التي اعتادت تلك السلطات استخدامها في ملاحقة المعارضين والصحفيين والكتاب ذوي الآراء الناقدة لسياسات الدولة، وهما تهمتا "نشر الأخبار الكاذبة" و"الانضمام لجماعة إرهابية مع العلم بأغراضها"، وقد قُبض بموجبها على نحو 60 ألف معتقل وسجين سياسي في السجون المصرية، حسب تقارير دولية.

وفي مقال للباحث "ياسر الضبع" نشره معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، أن استخدام منصة "تيك توك" حظى باهتمام السُّلطات المصرية التي سعت بدورها إلى توجيه تُهمٍ أخلاقيةٍ إلى "المُتَهمات"، وضبط الأرباح المالية للشخصيّات المُؤثّرة والسيطرة على التعبير المُستقلّ عن الرأي.

وفقاً لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، هناك جانب آخر يفسر ملاحقة السلطات الأمنية للمحتوى على منصات التواصل الاجتماعي، وهو رغبة السلطات في فرض السيطرة على مستويين، المستوى الأول هو المرتبط بفرض الرقابة على المحتوى وما ينتج عنه من حجب وملاحقة للمستخدمين، والمستوى الآخر يتعلق بالمكاسب المالية، التي تترتب على النشاط الرقمي.

وتكشف سجلات البحث على الإنترنت عن توجُّس السلطات الأمنية من كل وارد أو منصة جديدة في فضاء العالم الرقمي غالباً ما تعكسها تلك السلطات عبر نواب متعاونين في البرلمان.

ففي عام 2017، أعلن النائب "جمال العقبي" عضو المكتب السياسي لائتلاف دعم مصر (معبر عن الدولة)، عن نيته تقديم طلب إحاطة إلى البرلمان، بشأن ضرورة إصدار قانون لإلزام مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" بإجبار جميع رواد التطبيق من المصريين على إنشاء حساباتهم باستخدام الرقم القومي، وذكر محل الإقامة، لتحديد هوية كل مستخدم، لكن هذا الاقتراح لم ينفذ.

نظام خائف

وحسب الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، كانت هناك محاولة شبيهة في عام 2005، عندما هددت الشرطة أصحاب مقاهي الإنترنت بغلق محالّ عملهم، إن لم يلتزموا بأوامرها فيما يتعلق بتسجيل أسماء وأرقام الرقم القومي لكل الراغبين في استخدام الإنترنت.

ومؤخرا، اقترح مجلس الشيوخ بحظر تطبيق "تيك توك" في مصر ضمن تطبيقات "لا تتوافر في شأنها سياسات ومعايير سلامة الاستخدام لا سيما في قطاعي الشباب والنشء" حسب نص المقترح المقدم من النائبة "ريهام عفيي"، والذي أُرفق بتوقيعات من 20 عضواً آخرين.

وعن مواجهة السلطات سخرية الغلابة من حالهم في إطار أعمال فنية، يقول الكاتب الصحفي والناقد الفني "أسامة صفار"، إن "السلطة العسكرية بطبيعتها سلطة ثقيلة الظل تكره كل ما هو إنساني، وتميل إلى العمل الآلي المنضبط في سياقه العسكري، وحين يتم نقل تلك القيم إلى الأجواء السياسية والشعبية فإنها تقابل بالسخرية المكتومة والمخفية".

ويضيف أن مشكلة السخرية هنا ليس في كونها سخرية ولكن لكونها علنية، حيث يعيش النظام حالة خوف مزمن، والخوف يؤدي إلى سلوك عنيف تجاه أي مثير، حتى ولو كان سخرية يقوم بها بعض المساكين من أحوالهم قبل أن يكون من النظام نفسه.

ويشدد على أن تلك المساحة من السخرية -على بساطتها- مخيفة؛ فهي فيض خرج إلى العلن ينبغي حسب تصور النظام، إخفاء أدلته أو خلق سرديات بديلة، مشيرًا إلى أن توقيف صناع المحتوى الساخر فعل ينتمي إلى مفهوم الأمن السياسي.

ويتابع: "النظام يعرف جيدًا خطورة السخرية وتسرب فكرة العدمية إلى شعب خسر كل شيء في حالة الخضوع أو الثورة، وحين تتساوى النتائج تصبح الثورة حتمية".

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

تيك توك مصر ناشطون سخرية توقيف