أخطار ترويج الغرب للإسلام المعتدل

السبت 30 يناير 2016 08:01 ص

رغم أن أقل من 2% من أعمال العنف القائمة على دوافع سياسية في أوروبا نفذها مسلمون، مع ذلك فإن تناول الإعلام الغربي لـ«الإسلام الراديكالي» و«المسلمين المتطرفين» يصل إلى أعلى مستوياته بعد أي اعتداء كبير تتعرض له دولة غربية.

ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل إن التحليل المنطقي لأسباب «التطرف» لدى المسلمين يفشل في الوصول إلى الرأي العام الذي ينساق وراء أحكام جزافية مسبقة سطحية تربط التدين والتمسك بالدين بالنزوع نحو العنف، رغم أنه لا دليل دامغ على وجود صلة بين الاثنين. وهكذا وُجِدت شبكات ممولة لكراهية للإسلام تحض على هذا المنطق الأعوج في فهم التطرف، وهذا هو اللب الأساسي وراء مساعي الغرب في الدعوة لـ«إسلام معتدل».

هذا منطقٌ متفشِ في سياسات الحكومات، ويقول المراقبون كذلك أنه يعيق دور المسلمين في مكافحة التطرف لأنه يكبت حريتهم في المشاركة العلنية ضمن فعاليات الديمقراطية في الحياة المدنية، فضلاً عن حق التعبير عن الآراء السياسية.

العلاقة الواهية بين التطرف والمحافظة

إن نظرة على ملفات الغالبية العظمى من منفذي الاعتداءات المسجلين، ومن ضمنهم خاطفو طائرات 11 سبتمبر/أيلول ومنفذو اعتداءات باريس الأخيرة، تكشف بشكل لا لبس فيه الاختلاف الصارخ بين قيم الشارع المسلم وبين نمط حياة هؤلاء المعتدين الحافل بالمخدرات المحظورة والجنس والكحول، والتي يعدها جميع المسلمين المحافظين محرمة قطعياً.

لكن بالرغم من غياب أي صلة واضحة بالعنف الراديكالي، فإن بعض الحكومات تنظر إلى المحافظين أو التقليديين من المسلمين في نمط لباسهم ونظرتهم لدور المرأة والرجل ومقاطعتهم للكحول بل وحتى استماعهم للموسيقى من عدمه، كما لو أنهم سائرون نحو وجهة واحدة هي العنف.

فبعد اعتداء شارلي إيبدو في يناير/كانون الثاني من العام الماضي في باريس نشرت الحكومة الفرنسية منشوراً تعدد فيه علامات «التطرف» الإسلامي والتي منها: المسلم الذي يتوقف عن الاستماع للموسيقى، أو الذي يمتنع عن المشاركة في الأنشطة الرياضية المنظمة، أو الذي يغير طريقة هندامه.

وقد ذكرنا ذلك بالكاتبة الأميركية «آسرا نعماني» في زعمها أن العبارة العربية «إن شاء الله»، والتي يستخدمها المسلمون وغير المسلمين من العرب على حد سواء، ما هي إلا ناقوس خطر.

لكن المغالطة التي تربط الورع والتقوى الإسلامي بالنزعة نحو العنف مطبٌ تقع فيه حتى أكبر وكالات الأنباء العالمية، إذ إن وكالة فرانس بريس استعملت مؤخراً لفظ «مسلم تقي لكن معتدل» في وصف ملياردير سعودي، في تلميح ضمني إلى أن التقوى تتضارب مع «الاعتدال»، وأنهما لا يجتمعان.

وبالطبع هذه ليست إلا بضعة أمثلة بسيطة على كيف تحوم شبهات العنف الراديكالي حول أولئك الذين يتمسكون بأبسط المعتقدات والطقوس الإسلامية. وهكذا يصبح «المسلم الصالح» ذلك الذي لا يبدو عليه شيء من إسلامه.

صناعة الإسلاموفوبيا

لكن التحول الإعلامي والثقافة السياسية التي ترى تلقائيًّا في الإسلام التهديد الفكري لقيم الغرب المتحررة وتساوي المحافظة الإسلامية بالعنف والتطرف كلها أمورٌ ليست وليدة الصدفة البحتة حسب ما يعتقده الكاتب والباحث «ناثان لين».

فالكاتب «لين»، صاحب كتاب صناعة الإسلاموفوبيا، قال في حديث له مع الجزيرة إن صناعة تقدر بملايين الدولارات ولدت وتصاعدت بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 عمادها «فريق من المدونين وأشباه العلماء والقادة الدينيين والناشطين الذي ظهروا مدعين الدراية والعلم بالإسلام والمسلمين».

هناك أفراد وأشخاص مثل «باميلا غيلر» و«روبرت سبنسر» و«دانييل بايبس» وغيرهم خرجوا إلى الإعلام وغيروا وجه النشاط على الإنترنت ليصبح أفعالاً على الأرض بشكل أدى إلى خروج احتجاجات عام 2010 تحت راية مجموعتهم «مبادرة الدفاع عن الحرية الأميركية»، ضد جمعية بارك 51 الإسلامية في مانهاتن، حسب قوله.

ومن المعروف أن «سبنسر» و«غيلر» كانا مصدر إلهام لـ«آندرس بريفيك» القناص النرويجي اليميني الذي ذكر أسماءهم في بيانه الرسمي، وهو الذي قتل أكثر من 77 شخصًا في اعتداء جماعي عام 2011 احتجاجًا منه على ما أسماه استيلاء المسلمين على أوروبا..

كما أضاف «لين» أن انتشار الإسلاموفوبيا في أوروبا شهد امتداد «أذرع أخطبوطية لمجموعات أوروبية أخذت في الظهور مثل مؤسسة كويليام». كويليام هذه أرسلت إلى الحكومة البريطانية لائحة بأسماء مسلمين تتهمهم جزافيًّا ومن دون حجة بائنة بالإرهاب، كما ساعدت هذه المؤسسة في تطوير برنامج يتجسس على طلبة مدارس بريطانيا، وهي التي يسرح قادتها مع أمثال مؤسسة «كلاريون» التي أنتجت الفيلم المعادي للإسلام Obsession والتي بكل حيلة ودهاء وصفت نفسها بأنها مجموعة مكافحة تطرف تعنى بالأسلمة.

ويقول «لين»: «إن أهداف هذه المجموعات في نهاية المطاف ليست بالضرورة هي ذاتها، لكن الخيط الواضح الذي يجمعها هو رغبتها في رؤية الإسلام والمسلمين ممثلين تمثيلاً سلبيًّا ويناقش أمرهم في ضوء سلبي».

لقد بلغ خوف الدول الغربية مبلغاً بات معه مواطنوهم المسلمون يُقتادون خارج الطائرات في وجه عدد متزايد من حوادث الإسلاموفوبيا والتي تشمل معارضة محلية كبيرة ضد بناء المساجد والجمعيات المحلية، كما بات المسلمون الضحية الدائمة للقنابل الحارقة وغيرها من الاعتداءات التي قد تودي بحياتهم.

لكن هذه الأحداث غطاها مؤخراً طرح مغلف بالتوجس والقلق، ألا وهو طرح فكرة قبول ودمج اللاجئين المسلمين بالذات.

لكن الضغوطات الاجتماعية و«صناعة الإسلاموفوبيا» عبر الأطلسي، كما يحب «لين» والباحثون مثله أن يسموها، لا يمكن رؤيتها في معزل عن سياسات حكومات الغرب والتي دأبت على استهداف وقمع الجاليات المسلمة والتجسس عليها.

إزالة النشاط الإسلامي السياسي

عام 2007  نشرت مؤسسة راند، وهي مركز أبحاث ودراسات ممول من قبل الحكومة الأميركية وشركات أخرى مهمتها إعداد التقارير للجيش الأميركي، تقريراً بعنوان «بناء شبكات إسلامية معتدلة» تقترح فيه على الحكومة الأميركية أسماء شركاء مسلمين ينبغي عليها عقد شراكات معهم. ,r] اعتمد التقرير على قيم المجتمع الغربي في معيار «الاعتدال»، لكنه أيضاً أكد بعدًا سياسيًّا هو أن الحلفاء الطبيعيين للغرب هم المسلمون العلمانيون والصوفيون «المعتدلون» والمسلمون «الروحانيون» اللاسياسيون في وجه الإسلاميين الذين ترى مؤسسة راند أنهم يخلطون بدينهم بأجندة سياسية.

توجد نزعة بين ساسة الغرب لاعتبار وجود أي نشاط مدني أو سياسي بين المسلمين مؤشراً لـ«التطرف».

فحسب أقوال قائد شرطة سكوتلاند «يارد ماك تشيشتي»، إن مسلمي بريطانيا يروجون لمقاطعة منتجات ماركس آند سبنسر، وهي شركة عملاقة اتهمت بتقديم الدعم للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وحملة المقاطعة هذه قد تكون مؤشر تطرف. وربط بين حملة المقاطعة، والتي هي وسيلة احتجاج ذات تاريخ طويل مع الحركات السلمية، وبين منفذي اعتداءات قتلوا 80 شخصاً في مدرج حفلات غنائية لمجرد أن كلتا المجموعتين من المسلمين.

وإلى جانب التفاعل مع قضايا العدالة الاجتماعية والتي هي أمر مهم لكثير من المجتمعات المسلمة، فإن مظاهر زيادة التمسك بأبسط مبادئ الدين، مثل الامتناع عن تناول الكحول، هي في نظر «تشيشتي» إشارة إلى أن المسلمين المعنيين هم «جهاديون» محتملون..

ومؤخراً انتقدت بريطانيا كثيراً لإطلاقها برنامجا يدعى «وقاية» حيث وقع المئات من الشخصيات الأكاديمية البارزة والمحامين والمسؤولين الحكوميين رسالة قالوا فيها إن القانون البريطاني بات يصنف إطلاق اللحية أو ارتداء الحجاب أو مخالطة المسلمين على أنها جميعها تحمل دلالات فلسفة سياسية شاملة تشير إلى «إرهاب محتمل».

أهداف ومشبوهون في الوقت ذاته

تحدث «غلين غرينوولد» إلى الجزيرة، وهو الصحفي الفائز بجائزة بوليتزر والمعروف بكتابته عن تسريبات «إدوارد سنودن» حول وكالة الأمن القومي والذي شارك في تأسيس موقع ذا إنترسبت الإخباري، وقال: «لا جهود ملموسة تبذل للتمييز ما بين المسلمين أو الجهات المسلمة "المتطرفة" و"المعتدلة" فيما يخص أمور التجسس والمراقبة، فالفرضية المتعارف عليها في أوساط المخابرات أن كل ما هو "إسلامي" سواء كان مجموعة أم أفرادًا هو محط شبهة فورية تستدعي الرقابة».

وفي عام 2014، نشر «غرينوولد» لائحة بأسماء قادة وناشطي المجتمع الأميركي المسلم الموضوعين تحت الرقابة من قبل الحكومة الأميركية. وحسب ما قال فإن «القادة المسلمين الخمسة الذين كشفنا أنهم أهداف استخباراتية جميعهم اشتركوا في أمر واحد فضلاً عن ديانتهم الإسلامية: ألا وهو انتقادهم للسياسة الأميركية الخارجية».

وأضاف قائلاً: «ومن أبرز تلك الأسماء مسؤول أمن قومي سابق أيام بوش ومرشحًا جمهوريًّا للكونغرس أيد عمومًا أجندة السياسة الخارجية للحزب الجمهوري، وهناك آخر هو عالِمٌ وباحث تم إدخاله إلى أعلى طبقات أوساط السياسة الأميركية الخارجية. لكن بالرغم من تأييدهم وتوافقهم مع السياسة الأميركية الخارجية، إلا أن ذلك لا يُبقي هؤلاء الأميركيين المسلمين في معزل عن الشبهات إن تفوهوا بأقل انتقاد».

ووافقه الرأي في كلامه «حاتم بازيان»، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي والناشط الأميركي المسلم، حيث قال: «إن الحكومة تعمل ضمن إستراتيجية مشابهة لتلك التي طبقت في حقبة الستينيات وحقوقها المدنية عندما انطلق برنامج الـ(إف بي آي) المسمى كوينتيلبرو الذي استهدف القادة والمجموعات المصنفة بأنها ذات إشكالات سياسية سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر، بغية عرقلة أعمالهم أو تغيير وجهته أو تحييده». وأضاف بازيان: «الهدف من ذلك استمالة البعض إلى تعاون يمكن استغلاله وتوظيفه بوقًا يدعم سياسات الدولة محليًّا وعالميًّا».

وإلى جانب تجسسها على قادة المجتمع الإسلامي والمساجد بل وحتى طلبة الجامعات من المسلمين، فقد تبنت الحكومة كذلك مبادرات تحت مسمى «مكافحة العنف المتطرف»، وقد تعرضت المبادرة لكثير من الانتقادات، منها اتهامات منظمة ذات صلة بكلية الحقوق بجامعة نيويورك، بأنها تركز على «المسلمين فقط وتصمهم بأنهم مجتمع مشبوه، وقد نشرت هذه البرامج نظريات مغلوطة حول التطرف الإرهابي أدت إلى خلق خوف غير مبرر ونشر التفرقة العنصرية والتبليغ غير المبرر عن المسلمين ليَمْثُلُوا أمام القانون».

وحسب أقوال «بازيان»: «فإن المشكلة الجوهرية في هذه المبادرة هي كونها ترى في السلوك الإسلامي العادي والمتدين مشكلة، ويحاول إدارة أفكار وتعيين مؤشرات غير ذات صلة بالتصرفات أو النوايا الإرهابية والإجرامية».

وأضاف «بازيان»: «إن العوامل الأساسية المنصوص عليها لا علاقة لها بالنوايا الإجرامية، كما أن المؤشرات والدلائل الأساسية في البرنامج تتمثل في: أداء الصلاة 5 مرات في اليوم وإطلاق اللحية والتذمر من السياسة الأميركية الخارجية والتعبير عن آراء بالاحتلال الإسرائيلي والمعاناة الفلسطينية».

وهكذا برقابته اللصيقة السرية، أو لعل الأصوب أنها ليست بكل هذه السرية، وقمعه للمسلمين الأميركيين أنى وجدوا، فإن هذا البرنامج (المبادرة) يمثل سياسة أميركية حكومية عامة المراد منها الضغط على المسلمين كي يبتعدوا عن النشاط السياسي الذي قد يشكل تحديًّا لسياسات الدولة.

ويشرح «بازيان» ذلك قائلاً: «إن كان الهدف هو حماية وأمن المجتمع، والذي هو أمر يحتاجه المسلمون أمس الحاجة سواء في أميركا أم خارجها، فإن المسلمين هم ضحايا الإرهاب ومكافحة الإرهاب في آن معًا لأنك كيفما نظرت ترى أنهم مستهدفون ومشتبه بهم في وقت واحد».

أمن الأغلبية في وصم الأقلية

لكن سياسات كتلك لا تنحصر في أميركا وحسب، فالشرطة الفرنسية تعمل بمقتضى قانون طوارئ خاص يضع الآلاف من المنازل والمساجد والمحال التجارية المملوكة من قبل مسلمين قيد المداهمات والترويع الدائم، حيث أقفلت مساجد كثيرة بصورة دائمة بعدما وصمتهم الحكومة الفرنسية بأنهم «شديدو المحافظة».

وبالإضافة إلى قمع الحكومة لكل ما تراه شديد الإسلام، فإن الوصم الاجتماعي في فرنسا في تصاعد دون رقابة.

يقول «مروان محمد» الناشط الأوروبي والمتحدث السابق باسم المبادرة الجماعية المناهضة للإسلاموفوبيا في فرنسا: «يعيش مسلمو فرنسا حاليًّا في حالة دائمة من القلق والجزع، فهم يدركون أن الشعور بالأمن هو إشارة سياسية لجمهور المواطنين لا تتحقق إلا من خلال محاصرتهم والتضييق عليهم والإمعان في وصم مجموعهم».

ويضيف «مروان»: «لقد أوضح رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس في خطاب له قبل بضع سنوات أنه لا يخشى التصويت الإسلامين من بعدها وفي لقاء على محطة راديو رئيسية أكد آراءه تجاه المسلمين إذ قال إن المعركة ضد غطاء الرأس معركة أساسية للجمهورية. وبأقواله هذه أكد فكرة أن المجتمعات المسلمة التي تعيش عموماً في مناطق محرومة اقتصاديًّا واجتماعيًّا لا تشكل قوة سياسية».

إضفاء صفة المذنب على كل المسلمين

رغم أن الإعلام، والحكومة، خلَّقا فرقًا بين المسلم "الصالح" والمسلم "الطالح" وأن هذا الموضوع نوقش وكتب عنه باستفاضة، إلا أن النزر اليسير فقط من التحليل والنقاش ناله موضوع كيف تتناول المؤسسات الإسلامية هذه الإشكالية بين القطبين.

ينتقد اليساريون واليمينيون المؤسسات الإسلامية البارزة وقادة المجتمع المسلم على ما يرون أنه قلة جهود مبذولة لا تكفي لشجب وإدانة مجموعات مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق والشام، لكن المفارقة أن المؤسسات الإسلامية وقادتها دأبوا على الإدانة والشجب مع كل اعتداء منذ سبتمبر/ أيلول 2001.

المشكلة الحقيقية في رأي البعض هي الحماسة المفرطة في دعم هذه المؤسسات لسياسات الدولة التي أسهمت في رفع وتيرة التهديد الإرهابي وخلقت الظروف الموائمة للمجموعات المتطرفة كي تجند الأفراد المضطهدين، حتى أن العديد من المؤسسات الأميركية الإسلامية أمعنت في النأي بنفسها عن مفهوم "المسلم السيئ" محاولة في الوقت ذاته إظهار نفسها على أنها البديل الحسن "الصالح" لكي تنال رضا الحكومات الغربية.

ويقول النقاد إن عملية تعزيز مفهوم «الاعتدال»، بمفهومه الذي وضعته حكومات الغرب، التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية داخليًّا ضمن مجتمعها الإسلامي، أدت إلى عزل أفراد المجتمع الذين كان من الممكن لهم، لولا هذه العملية، أن يجدوا مساحة تعبير عن آرائهم السياسية وإحباطهم إزاء سياسة الدولة وتهميشهم الاجتماعي.

في الولايات المتحدة بلغ الأمر ببعض المنظمات من أمثال مجلس الشؤون العامة الإسلامي أن تثني على المبادرة الحكومية السابق الإشارة إليها وتمجدها. كما أسس المجلس مبادرة اسمها مبادرة أمن الأماكن والتي انتقدت كثيراً لأنها تحاول «انتزاع جذور التطرف في المجتمعات الإسلامية» من خلال هذا البرنامج الذي يقبل دون نقاش ويسلم بالتعميمات السطحية التي ثبت بطلانها حول «علامات التطرف».

بالفعل توجد حالة من الارتباك في أوساط المؤسسات الأميركية الإسلامية تدفعها لتظهر نفسها بدور الإسلام «الجيد المعتدل» وسط مناخ الإسلاموفوبيا المعادي للإسلام، ما يجعلها تتبنى مواقف مثيرة للجدل ضمن مجتمعاتها التي يفترض أن تمثلها.

مثلاً، هناك أميركيون كثر اعترضوا على مقتل «أسامة بن لادن» في مايو/أيار عام 2011 والذي تم دون محاكمة قضائية، حجتهم في ذلك أن مقتله انتهاك لأبسط حقوق الإنسان في محاكمة عادلة حسب الأعراف المعمول بها.

لكن المؤسسات الأميركية الإسلامية هللت تلقائياً في تصريحاتها وبياناتها الصحفية الصادرة حول الموضوع، فقد قالت مجموعة إنها «ترحب بالتخلص من أسامة بن لادن». كثيرون ممن يدينون «بن لادن» ويعترضون في الوقت ذاته على شروع حكومتهم بالقتل دون محاكمة انتقدوا هذه المنظمات على تشويه الانتقادات ذات الأسس المشروعة والتي يأخذها الكثير من الأميركيين المسلمين على حكومتهم.

إضافة إلى ذلك فقد انتُقِدت بعض كبرى منظمات الأميركيين المسلمين على تصريحات ومؤتمرات صحفية تستسلم فيها متخاذلة للضغط فتبدو إمعة سياسياً وتابعاً دائم الاعتذار أو كأنها في معزل عن الواقع الاجتماعي السياسي.

مثلاً في أثناء الاحتجاجات حول استهداف السود بنيران الشرطة والتي خرجت مظاهراتها في بالتيمور عقب مقتل «فريدي غراي» بأيدي الشرطة، انتُقِدت الجمعية الإسلامية في أميركا الشمالية «إسنا» على الزج بنفسها في الموضوع بعدما عبرت عن عدم قبولها بإثارة «الشغب» دون أن تكون قد أصدرت أي بيان إدانة لجريمة القتل أساساً ومن دون الدعوة إلى العدالة.

وبشكل مماثل وفي غضون ساعات من اعتداءات سان بيرناردينو وقبل أن يصدر عن الشرطة أي تأكيد بأن الفاعلين كانوا مسلمين، سارع مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية لعقد مؤتمر صحفي مباشر لإدانة الاعتداء. وانتقد المؤتمر الصحفي الذي رتب بسرعة البرق ووصف بأنه «مدعاة للاشمئزاز والسخرية» لأنه أظهر فرداً من أفراد عائلة المشتبه بهم يعبر عن تعازيه للأمة رغم أنه مفجوع وفي حالة صدمة.

مسلمون كثيرون رأوا في المؤتمر خطوة يائسة لإظهار القصة بمظهر هي ليست عليه، ما يوجه إصبع الاتهام فعلياً لكل المجتمع المسلم لأن المجلس تكلم باسمهم جميعاً. ويرى النقاد أن أفعالاً كهذه تعزز فكرة أن على المجتمع المسلم ككل عاتق مسؤولية خاصة هي الشجب العلني لأفعال بني دينهم.

ورفض «نهاد عوض» الرئيس التنفيذي لمجلس العلاقات هذه الانتقادات وتحدث إلى الجزيرة قائلاً أن «عقد المؤتمر الصحفي الذي نقلته على الهواء مباشرة جميع القنوات الرئيسية في البلاد وضع أفراد العائلة والمجتمع المسلم في دفة قيادة الخبر لا تحت رحمته».

أئمة «أعيد تأهيلهم»

وقد ساهم أئمة ذوو اتصالات وثيقة بمسؤولي الأمن الأميركي بتشويه صورة النشاط الإسلامي السياسي والاجتماعي عندما لا تتسق أهدافه مع أجندة المؤسسة، وذلك بربطه بتطرف «داعش»، من هؤلاء الأئمة الخطيب الأميركي المسلم والمعروف جماهيرياً «حمزة يوسف» والذي كان مستشاراً لحكومة «بوش».

ففي محاضرة له في ماليزيا عام 2014 لام «يوسف» كل من شارك في الاحتجاج على حكوماتهم الاستبدادية أثناء ثورات 2011 العربية متهماً إياهم أنهم السبب في صعود «داعش». فقد دعا «يوسف» إلى الهدوء السياسي والطاعة إذا قال واعظاً الحضور: «عليكم إصلاح أنفسكم، أما قادتكم فلهم عليكم الطاعة. أترون ما تفعله الثورات؟ انظروا إلى نتائج الثورات».

ولم تتوقف هنا جهوده لربط المشاركة الإسلامية في العصيان المدني ضد الطغيان بـ«داعش». ففي حلقة بثتها الجزيرة من برنامجها UpFront أذيعت أول مرة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015 خلط «يوسف» الفكر الإصلاحي الإسلامي، الذي يرجع إلى قرون طويلة ويضم قائمة عريضة من المجددين والمحافظين والصوفيين وغيرهم، بحركة العنف التي يرى كثيرون أنها ولدت من رماد الاحتلال الأميركي للعراق.

فقد قال «يوسف» لأولئك الذين يدعون للإصلاح الديني في مواجهة «داعش»: «هؤلاء هم المصلحون، وهذه هي ثمرة الإصلاح». ولعل «يوسف» أصبح في نظر البعض خير مثال على إعادة التأهيل الذي مدحته نيويورك تايمز بتحوله من «تاريخ خطابة معادية لأميركا» إلى «مسلم معتدل».

التحكم في المسلمين

في هذه الأثناء، طالبت المنظمةُ الإسلامية الوحيدة التي تعترف بها الدولة الفرنسية، المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية، بحصول الخطباء المسلمين على رخصة من الحكومة ليتمكنوا من العمل بشكل شرعي في الجوامع، رغم أنه لم يتم توثيق أية حالة من الدعوة إلى التطرف في المساجد.

وحسب ما يقول «مروان محمد»، الناشط الأوروبي، فإن العديد من المسلمين الفرنسيين انتقدوا المجلس مثلما انتقدوا الحكومة لأنها اعترفت بمنظمةٍ لا يشعرون بأنها تمثلهم.

وقال «محمد»: «الرئيس السابق نيكولا ساركوزي هو من أسس هذه المؤسسة، ومنذ ذلك الحين، ارتبطت بموقف الحكومة الذي لا يزال يتعامل مع المسلمين بغاية التحكم بهم. وزاد الوضع سوءاً بسبب الطريقة التي يصوّر بها الأعلامُ المسلمين عبر دعوته للمخبرين المسلمين الذي سيستخدمون لاحقاً للتحريض على المسلمين بحجة أنهم يتكلمون من داخل الجالية المسلمة بينما هم في الحقيقة مرفوضون من قبل هذه الجالية نفسها».

«حسن الشلغومي»، هو أحد الأئمة الذين يظهرون كثيراً على وسائل الإعلام الفرنسية رغم الانتقادات الحادة التي يتعرض لها من الجالية المسلمة في فرنسا. يترأس «الشلغومي» مؤتمر الأئمة، وهي المنظمة التي أسسها بنفسه، لكن الأهم هو أنه قضى الكثير من الوقت في تكريس ثنائية الإسلام (الإسلام الراديكالي والإسلام الجيد) في فرنسا وغيرها من الدول الغربية.

في زاوية الرأي من صحيفة هآرتس الإسرائيلية، أيّد «الشلغومي» قرار وزارة الداخلية الفرنسية إغلاقَ الجوامع التي اعتُبرت سلفية أو «مدعومة من قبل الإخوان المسلمين» في محاولة واضحة للربط بينهم وبين ما يُسمى بـ«جذور التطرف».
«الشلغومي» الحاصل على الجنسية الفرنسية والذي درس في كليات الدراسات الإسلامية في سوريا وباكستان دعا أيضاً إلى تشكيل هيكليةٍ تدريبية «خالية من كوادر أجنبية» تحدد تفسيرات التعاليم الإسلامية التي يُسمح للخطباء المسلمين في فرنسا بتعليمها. كما طالب الحكومة الفرنسية بترحيل الخطباء الذين لا يتبعون ما سمّاه بـ«الإسلام المعتدل»، وبإغلاق المساجد التي تُعدُّ «أمكنةً لنشر الكراهية».

الفضاء المنكمش للنشاط الإسلامي

الخطوات المنفرة التي قامت بها المؤسسات الإسلامية في بلدان مثل الولايات المتحدة وفرنسا، بما فيها المؤسسات المذكورة في هذه المقال، دفعت العديد من المعلقين والنشطاء مثل «بازيان» إلى القول بأن «الجالية لا تزال تفتقر إلى رؤية إستراتيجية، إلى خطةٍ هادفة وإلى هيئة تمثيلية متماسكة تستطيع أن تضغط على الحكومات في سبيل حماية مصالح الجالية على الصعيدين الداخلي والإقليمي. فمثلاً في العاصمة واشنطن، يبدو البيت الأبيض ووزارة الخارجية وكأنهما النطاق الوحيد الذي تضعه المنظمات الإسلامية في الاعتبار كحدودٍ لآفاق حقوقها الدستورية والمدنية»ز

وقالت «غريوال» للجزيرة إنه رغم أن «أفراداً معينين، مثل حمزة يوسف، ومنظمات معينة، مثلمجلس العلاقات استطاعت الحصول على ثقة الجوامع الأميركية المسلمة، إلا أن ارتباط القادة والمنظمات الدينية بالحكومة يعرّضهم لخطر فقدان ثقة الجالية الإسلامية بهم». وبالطبع، ومع استمرار وصم المسلمين في الولايات المتحدة وفرنسا، فإن العديد من قادتهم استمروا في إظهار ما يجب أن يكون عليه «المسلم الصالح» بدلاً من التطرق إلى أسباب حرمانهم من حقوقهم كمواطنين.

وأضافت «غريوال»: «الكثير من (الحرب على الإرهاب) يتعلق بالتحكم في الفضاء الإسلامي، بمسائل من قبيل أن المسلمين غير مسيّسون أو أن الفضاء السياسي المسموح لهم ضيقٌ للغاية، إذ ينحصر في الانتقاد المعتدل للحكومة. المسلمون الأميركيون لا يستطيعون أن يعبروا عن أي آراء سياسية راديكالية وكأن كل ما هو راديكالي إرهابيٌّ بالضرورة، وهذا بالطبع ليس صحيحاا».

التهديد الذي تشكِّله سياسةُ التخدير السياسي والاجتماعي، التي تفرضها الحكومات والمؤسسات الإسلامية على الجاليات المسلمة، يطرح تساؤلاً مشروعاً حول الحرية السياسية والدينية في الدول الغربية. لكن هذه التضحية بالحريات، والتي من الواضح أنها تهدف إلى حماية أمن هذه الدول، تؤدي إلى عكس النتيجة المرجوّة.

إن ثنائية المسلم «المعتدل» (أي إما المسلم غير المسيّس الخانع للسلطة، أو المسلم الروحاني داخل فضاء خاص) والمسلم «المتطرف» (أي كل شخص يرفض الخطاب الحكومي، أو يُعتبر محافظاً أو تقليدياً بشكل مفرط) تترك مجالاً محدوداً للمسلمين لاستكشاف وعيهم السياسي والاجتماعي الخاص، ولاستكشاف علاقتهم الشخصية (والعامة) بدينهم وقيمهم.

في هذا المناخ الاستقطابي، يشعر العديد من المسلمين أن عليهم الاختيار بين هذين النموذجين. وتشرح «غريوال» قائلةً: «تكمن المشكلة في كيفية تصحيح مسار من يتخذ الطريق الخاطئ، ما دمنا لا نستطيع الحديث بصراحة في المسجد أولاً. في رأيي، إن الفضاء المحدود للتعبير بين المسلمين الأميركيين هو أحد التطورات الأكثر خطورةً منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وهو العامل الذي يدفع الأفراد باتجاه شبكات الإنترنت التي قد تكون خطيرةً جدا».

سهولةُ اتهام الأيدولوجيا الدينية

إن التركيز على الاستعداد الفريد لدى المسلمين ليصبحوا «متطرفين دينيين»، وهو ما قد يعني بالطبع أن يصبحوا فعّالين سياسياً، يتجاهل التهميش السياسي، الاجتماعي والاقتصادي الذي تعانيه الجاليات المسلمة.

«الطريقة التي دفعت بها سياسةُ التهميش هذه بعضاً من أعضاء الجالية المسلمة إلى الجريمة والعنف هي الطريقة ذاتها التي قادت مجموعات أخرى مهمّشة اجتماعياً إلى الجريمة والعنف، بمن فيهم الأميركيين من أصل أفريقي والذين استهدفهم عنفُ الدولة أيضاً»، حسب ما تقول «آن نورتون»، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا.

تضيف «نورتون»: «ذاك النوع من الاستعداد والعلاقة مع العنف، بالإضافة إلى تعامل الشرطة معهم على أنهم أشخاصٌ عنيفون، يقود إلى مفارقة: لأنهم يُعتبرون عنيفين، يُمارس عليهم المزيد من العنف، وهكذا يصبح المجرم هو الضحية. هذا بالضبط ما يحدث مع المسلمين على المستوى الدولي وما يحدث للأميركيين من أصلٍ أفريقي على المستوى المحلي في الولايات المتحدة».

وفي الوقت الذي يحاول فيها سودُ أميركا أن يشكِّلوا أكبر حركةٍ شعبية منذ حملة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي، يتم تلقينهم (مثلما يحدث مع المسلمين) عن مزايا اللاعنف. يعلِّمهم الخطاب الرسمي أنه من المسموح لهم أن يكونوا محبطين، لكن يتوجب عليهم عدم الخروج عن العُرف القائم على المعارضة المقبولة. لذا، يتم رسم تاريخ هاتين الجماعتين (المسلمون والسود) ضمن إطارٍ محدد من اللاعنف، السلام والمهادنة، حيث يتم قبولُ شخصياتٍ معينة واستبعادُ شخصياتٍ أخرى.

خلال مقابلةٍ مع صحيفة «الديمقراطية الآن»، قالت الكاتبة الأميركية ذات الأصول الأفريقية، «تاناهيتي كوتس»: «لنتناول مفاهيم معينة، اللاعنف مثلاً.. حين كنت أسير في شوارع بالتيمور الغربية، كانت تبدو غير قابلة لتطبيق هذا المفهوم. كان العنف أساسياً في حياة المرء هناك، كان في كل مكان من حولنا. ثم حين نظرتُ إلى أميركا كلها، بعد أنا نما وعيي السياسي، بدا واضحاً أن العنف أساسيٌّ في أميركا، في ماضيها، حاضرها ومستقبلها».

ربطت «نورتون» بين عنف الدولة الذي يستهدف السود في أميركا بالملايين الذين يعيشون في الشرق الأوسط، شمال أفريقيا وجنوب آسيا، هؤلاء الذين تربطهم بالمسلمين الذين يعيشون في الغرب علاقاتٌ وهويةٌ مشتركة، فالمسلمون هنا يشاهدون الغزوات التي تقودها أميركا والتي يدعمها الغرب، ويشاهدون القصف الذي يؤثر على الحياة اليومية للمسلمين هناك.

لكن هذا واقع المسلمين الفقراء والمهمشين أيضاً، أولئك الذين يعيشون في الضواحي الفرنسية، أو في أميركا تحت ظل ثقافة السلاح التي يذهب ضحيتها آلاف الأميركيين سنوياً، كما أن المسلمين في بلدان الغرب يواجهون ردود أفعال عنيفة من السكان المحليين مثلما يتعرضون لمراقبة غير مشروعة من حكومات هذه الدول بسبب انتمائهم الديني.

الرسالة التي ترسلها سياسات الحكومات الغربية إلى سكانها المسلمين لا تختلف عن تلك التي طالما وجهت إلى الأميركيين السود «أن حياتهم أقل أهمية»، فرغم أن «أوباما» دافع عن أوامره التنفيذية التي صدرت مؤخراً لضبط بيع السلاح متسائلاً: «ماذا لو حاولنا إيقاف ولو فعل عنيف واحد قد يودي بحياة واحدة؟»، إلا أن الرئيس يبدو غير مستعد لتطبيق المنطق نفسه على الاستخدام المدمر للضربات الجوية التي تنفذها طائراتٌ بدون طيار، والتي لا تصيب 90% منها الأهداف المخطط لها، مما يوقع عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين. كما لا يطبق هذا المنطق أيضاً على بيع الأسلحة الأميركية في الخارج.

حين تتداول شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو للقتلى المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، الذين قتلوا نتيجةَ الضربات الجوية الأميركية، بينما المسلمون عاجزون عن التعبير عن معارضتهم لما يحدث خوفاً من إثارة الشبهة، فهل من المفاجئ أن أقليةً منهم تلجأ إلى العنف، مستعدين بالتضحية حتى بأرواحهم، التي من الواضح أن لا قيمة اجتماعية لها، سعياً لما يرون أنه تحقيقٌ للعدالة؟

كثيرا ما تكررت مقولة «مارتن لوثر كينغ»: «أعمال الشغب هي لغةُ مَن لم يسمعهم أحد» في سياق الاحتجاجات في بالتيمور، وهي قابلةٌ للتطبيق على المسلمين بشكل مشابه.

رجالٌ بيضٌ غاضبون

بالإضافة إلى الأميركيين السود والمهاجرين المسلمين، ثمة مجموعةٌ أخرى ترى أنها مهمَّشة، حسب «نورتون» التي تقول: «الرجال البيض الغاضبون المنبوذون، مثل روبرت دير جي. آر، الذي أطلق النار على الناس في مركز جمعية تنظيم الأسرة الأميركية في كولورادو. الكثير من الأعمال الإرهابية ارتُكبت من قبل أشخاصٍ ينتمون إلى هذه الفئة التي أتخيل أنها وجدت نفسها مهمَّشةً ومحرومةً من حقوقها. فهذا الشخص الأخير (روبرت دير) كان يعيش في كارافانةٍ مركونةٍ في العراء».

تتأكد وجهة نظر «نورتون» حين نفكر بالاحتلال المسلح الأخير الذي قامت به ما تسمى بـ«ميليشيات أوريغون»، والمكونة من رجال يمكن تصنيفهم ضمن هذه الفئة.

وتتابع «نورتون» قائلة: «لكن المثير للاهتمام أنه بدلاً من التطلع إلى بلدٍ يتقبل تنوع جميع مواطنيه في المستقبل، تتطلع هذه الميليشيا إلى الماضي، إلى بلدٍ أقل تقبلاً. يريدون بلداً أصغر، لذا فهم متحمسون لدونالد ترامب الذي يريد أن يبني جداراً بيننا وبين المكسيك، ولاستبعاد النساء. يريدون أميركا القديمة مثلما يتخيلونها. نستطيع رؤية تجربة مشابهة في فرنسا عبر زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبين، وفي هولندا عبر غيرت ويلدرز».

إنكارُ الانتماء

في فرنسا، يصادف المرء مستوىً من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي بين الجالية المسلمة أكثر بكثير مما هو موجود في أميركا، وهو لا يتعلق فقط برفض الاعتراف بالمسلمين كقوة سياسية. تقول «نورتون»: «أعتقد أن التأثير الأقوى لعزل المسلمين هو إنكار انتمائهم، رفض الاعتراف بهم كفرنسيين. ولا شك أن أحداثاً من قبيل هجمات باريس تُفاقم هذه الحالة. كان المهاجمون مواطنين فرنسيين، لكن لا أحد يعترف بهذا. لا أحد يعترف بالفشل في النظر إليهم كفرنسيين».

يتفق عالم الاجتماع والناقد الإعلامي الفرنسي، «علي سعد»، مع هذا الرأي: «بعد هجمات باريس في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، وحين بدأت أسماء الإرهابيين بالظهور، قدّمهم الإعلام بعباراتٍ من قبيل "من أصل مغربي، يحمل الجنسية الفرنسية" لتجنب قول إن هؤلاء الإرهابيين فرنسيون. يبيّن هذا الرغبة في استبعاد هذه الفئة من المسلمين، حاملي الجنسية الفرنسية من السكان».
وتضيف «نورتون»: «لا ينحصر الأمر بالتهميش الاقتصادي. فكم مرةً ينظر إليك الناسُ خلال اليوم على أنك لستَ منهم؟ قد يكون اسمك أو ما تأكله أو ما تمارسه هو ما يجعلك غريباً على البلد».

حين سألنا السيد «علي سعد» عن العوامل التي تساهم في دفع المهمَّشين إلى ارتكاب أعمالٍ عنيفة ضد الدولة أو المجتمع، أجاب شارحا: «لأن التهميش يدفع المجتمع إلى المزيد من الانغلاق، فإن غواية التطرف تصل إلى أقصى قوتها في لحظة معينة، خاصةً إن كان السياق العالمي مليئاً بالصراعات والحروب مثلما هي الحال الآن. وحين نجمع الحرمان الاجتماعي والاقتصادي مع عوامل أخرى أكثر شيوعاً بين مثل هذه المجموعات المهمشة، مثل العلاقات الأُسرية المفككة، المشاكل النفسية والتاريخ الاستعماري الدموي، فإن التطرف يصبح مبرراً أكثر بكثير».

يقول «سعد»: «بهذا المعنى، فإن العامل الأكثر شيوعاً في العملية التي تقود إلى التطرف هو عاملُ الإهمال الذي يؤثر غالباً على العاطلين عن العمل، المفتقرين إلى المؤهلات والذين لا يمتلكون سَكَناً مناسبا، والذي يقود في معظم الحالات إلى السجن، وهي البيئة التي يقع فيها السجناء الجدد فريسةً للمتطرفين الساعين إلى تلقينهم، عارفين أن هؤلاء الشباب لا يملكون مستقبلاً اجتماعياً أو مهنياً خارج السجن».

النتيجة المرجوّة

رغم أن العلاقة بين الوصم الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي وبين ما يُسمى «جذور التطرف» قد تبدو واضحة، إلا أنه ما زال على الإعلام الغربي والحكومات الغربية أن تركِّز على المشاكل بدلاً من التركيز على المكوّنات الإيديولوجية الموجودة في الإسلام والتي تقود الإرهابيين إلى ارتكاب هجماتهم.

حتى عندما تحاول تلك الفئةُ المحرومة من حقوقها الاجتماعية، في فرنسا مثلاً، المشاركةَ في المجتمع وإظهار طبيعة الصراع الذي تخوضه، فإن القضايا التي يحاولون إلقاء الضوء عليها تتم أسلَمَتُها بطريقة كاريكاتورية. فبعد الاضطرابات الاجتماعية الكبيرة التي عصفت بالضواحي الفرنسية في عام 2005، وهو الحدث الذي أطلق كماً كبيراً من التحليلات، قلَّصت التغطيةُ الإعلامية المشكلة لتركز على فكرة أن الكثير، وليس كل، من هؤلاء المحتجين الساخطين والمحرومين اجتماعياً كانوا مسلمينَ يعانون عُقد الهوية.

ومؤخراً، حاولت العديد من القنوات الإعلامية اتهامَ الدعوة إلى مقاطعة الشركات المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، وهي دعوةٌ غير مشروعة في القانون الفرنسي لأسباب اعتبرها المنتقدون تمييزية، بالتحريض على هجمات الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني في باريس.

هكذا، وبعد أن أصبحت الخطوط التي تفصل بين «الاعتدال» و«التطرف» ضبابية للغاية، تقلَّص فضاء النشاط السياسي المسموح للمسلمين بشكل كبير.
وفي أميركا أيضاً، فإن برامج من قبيل برامج مكافحة التطرف العنيف وشبكة المراقبة العملاقة مكرسة غالباً لمنع المسلمين من محاولة المشاركة في النشاط السياسي والاجتماعي، وهو على الأرجح النتيجة المرجوّة، حسب ما يقول «غرينوولد»: «تاريخياً، كان وضعُ القادة السياسيين والفكرين الأميركيين تحت المراقبة يهدف إلى السيطرة عليهم ومراقبة ما يقومون به لإيقاف أي نشاط سياسي فعّال. ويبدو أن هذه هي أهداف برامج المراقبة الحالية أيضا».

في هذه الأثناء، وبينما يتم التحكم بنشاطاتهم الاجتماعية والسياسية، فإن قدرة المسلمين على إظهار تدينهم تتضاءل في المجتمعات الغربية. يقول «بازيان»: «الطرف الذي يحدد شروطَ النقاش هو الذي يتحكم في ما ينتج عنه. وهكذا، فإن كل هذه الشروط تُفرض على الحوار بحيث أن ما يُقال أو ما سيُقال محدد بشكلٍ نموذجي مسبقاً بحيث يؤدي إلى النتيجة المرجوّة. هذا الحوار يُفرز هيكليةَ التحكم الاستعماري المطلوب والقائم على مبدأ فرِّق تَسُد أو فرِّق لتحدد شكل الحوار بحيث تتحكم في نتائجه على كل الجبهات».

أخيراً، تكمن المشكلة في هاجسِ محاولةِ خلْق نموذجٍ محددٍ من الإسلام، بدلاً من منح المسلمين الفضاء اللازم ليعيشوا الإسلام ببساطة، بكل تقاليده المتنوعة، مرجعياته، ثقافاته، ممارساته واعتقاداته.

ما أرادت هذه المحاولةُ تحقيقه في الحقيقة هو خنق الشكاوى السياسية، الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين باسم «تبني الصيغة المعتدلة من الإسلا»إذ يبدو الإسلام للغرب مؤهَّلاً لأن يتحول إلى «التطرف» بسهولة أكبر بكثير لولا جهود الحكومات والمؤسسات الإسلامية لـ«تعديل صيغته».

 

المصدر | هافينغتون بوست عربي

  كلمات مفتاحية

الولايات المتحدة فرنسا المسلمون في الغرب إسلاموفوبيا

شراكة «داعش» و«ترامب».. وتأجيج الإسلاموفوبيا!

الحرب على الإرهاب.. وتأجيج «الإسلاموفوبيا»!

مسلمو فرنسا في مواجهة «الإسلاموفوبيا» 

12 قتيلا في هجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية .. ومخاوف من تصاعد «الإسلاموفوبيا»

الإسلام كجزء من أوروبا