شهادة على ما حدث في أنقرة أثناء محاولة الانقلاب الأخيرة

الاثنين 18 يوليو 2016 03:07 ص

استيقظ الناس في 27 مايو/ أيار من العام 1960 على الانقلاب العسكري الأول في تركيا، عندما انقلب الجيش على «عدنان مندريس». ورغم أن «مندريس» كان يحظى بنفس الدعم من الجزء المحافظ من الشعب والناخبين الذي يحظى به «أردوغان» الآن، إلا أنهم لم ينزلوا إلى الشوارع واكتفوا بسماع أخبار محاكمته في المحكمة العسكرية وإعدامه. قاموا بالبكاء عليه، ثم انصرفوا إلى أعمالهم.

ووضع هذا الانقلاب البداية لسلسلة من الانقلابات عانت منها تركيا كل عشر سنوات تقريبًا.

عندما اعتلى حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002، أصبحت مؤشرات حدوث انقلاب جديد وشيكة جدا، فالحزب له خلفية إسلامية، إلا أن الحزب أدار لعبة متوازنة واعدا باستكمال جهود السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع مرور السنوات رسخت حكومة العدالة والتنمية أقدامها في السلطة، وقلمت أظافر الجيش في الوقت ذاته.

عندما سمعت طائرات قتالية تطير على ارتفاع منخفض من شقتي بأنقرة لم أظن أنه انقلاب،وقلت أنه ربما يكون هجوما عسكريا من تنظيم الدولة الذي سبق وتبنى هجوم نيس، وتحدث إليّ العديد من الناس يسألون عما يحدث وقلنا لو كان انقلابا فسوف تكون حظوظه ضعيفة.

وفقط بعد أن فهمنا ببطئ أنه انقلاب، خرج رئيس الوزراء في مداخلة تليفونية عبر إحدى قنوات الأخبار معلناً أنه «تمرد» من عدد محدود من الجيش، وأنه سوف يتم احتواؤه. وبعد ذلك خرج بيان المجلس العسكري بالاستيلاء على السلطة. وبعد أن قامت المجموعة الانقلابية بالسيطرة على مقار الحكومة والقنوات الإعلامية والتلفزيون الحكومي وبث المذيعة لبيان الانقلاب، أدركت أنه كان انقلابا حقيقيا.

ولكن هذه المرة مختلفة عن الانقلابات السابقة، فتركيا الآن بها العديد من القنوات الخاصة لتوضح للناس ما يحدث من زاوية أخرى. تم إغلاق تويتر وفيس بوك، ولكن الناس استخدموا الشبكات الخاصة الافتراضية (VPNs) للإتصال. وربما ظن المتآمرون أنهم قادرون على إنفاذ خطتهم دون الحاجة لقطع الاتصالات بالكامل.

تركت شقتي لأرى الأحداث في الخارج وتوجهت لمكان خاص ببعض الأصدقاء يمكنني من عبور شارع جناح الذي يؤدي إلى قصر الرئاسة القديم. لم يمر وقت طويل قبل أن أسمع قرقرة وصرير من الأسفل، وأنوار مركبات ضخمة غريبة تعتلي التل. كانوا حوالي 7 إلى 10 دبابات، والجنود أعلى الدبابات، وظننت في نفسي أنني سأكون أحد القليلين أو ربما الوحيد الذي يرى هذا المشهد من الشارع، وقمت بتشغيل هاتفي لأصور هذا المشهد.

وصلت إلى سكن صديقي، وشاهدنا الأخبار لنجد الرئيس «أردوغان» أثناء عودته على طائرته من أجازة في مكالمة بالصوت والصورة عبر برنامج فيس تايم مع قناة سي إن إن التركية. لقد كان مشهداً سرياليا والرئيس يتحدث مع المذيعين عبر شاشة الهاتف ويدعوا جموع الشعب للنزول والدفاع عن الميادين والمطارات والمنشآت مؤكدا أنه يعلم أن قوة الشعب أكبر من أي قوة أخرى.

كان هذا حدثا كبيرا، فبعد 15 عاماً من اعتلائهم سدة الحكم، آن للجزء المحافظ من الشعب التركي أن يعلو صوته أخيرا بعد عقود من الصمت منذ «مندريس». سيقاتلون وسيكون هناك دماء بالتأكيد، وعندما حادثت أصدقاء بالعدالة والتنمية كانوا بالفعل في طريقهم للمطار أو لمقرات الحزب. وبدأت صفحات التواصل الإجتماعي القريبة من الحكومة تدعوا الجميع النزول للشوارع مهما كلف ذلك.

لكن لم يكن هناك أصوات حيث كنت في غازي عثمان باشا، وهي واحدة من أغنى مناطق أنقرة. ذهبت إلى كوغلو بارك معتقداً أنني سأجد القليل من الناس لكن لم يكن هناك أحد. فمعظم العلمانيين الليبراليين الذين تظاهروا في ميدان تقسيم في 2013 لم يظهروا الآن، ولا يعني ذلك أنهم سعداء بالانقلاب، لكن خوفهم غلب غضبهم.

كانت أصوات الطائرات المقاتلة عالية، لكنها الآن تواجه بهتافات من المساجد. في البداية كان أذان الصلاة مدويا، لكنه لم يكن وقت صلاة، وبإذن من المؤسسة الدينية التركية تم استخدام مكبرات الصوت بالمساجد لدعوة الناس لترك المنازل والنزول إلى الشوارع لمقاومة الانقلاب. وغلب على المقاومين في الشوارع الطابع الإسلامي.

بعد وقت قصير اتضح من وسائل التواصل الإجتماعي والضجيج حول المكان أن الناس قد تجمعت أمام مقر البرلمان، وارتفع صوت التكبير (الله أكبر) مختلطا بأزيز الطائرات وأصوات إطلاق النار، ثم ظهرت مجموعة من الجنود صغيري السن مع علم تركيا متجهين باتجاه الحشود أمام البرلمان لتفريقها.

كان هناك بعض الجنود لا يزالون موجودين. أخلت مستشفى قريب بعض أسرة المرضى في البهو، معتقدين أنهم سيتوجب عليهم إخلاء المستشفى سريعا. بدا الناس خائفين. جلس حفنة منا معاً لمشاهدة رسالة «أردوغان» بعد وصوله لمطار أتاتورك في إسطنبول. كانت هناك نظريات متنوعة حول «فتح الله كولن»، ولازالت هناك أصوات انفجارات من قنابل تلقيها الطائرات الانقلابية. مع الوقت ذهبت إلى منزل والدتي، وكانت الشمس على وشك الظهور، ونمت لمدة ساعتين، ثم استحممت وبدأت طريق العودة إلى البرلمان، والذي أصبح خاليا الآن من العسكر.

كان هناك المئات إن لم يكن الآلاف من الناس لازالوا هناك. كانوا يوزعون الماء وأعلام تركيا بعد أن انتصروا في معركة الليلة السابقة. والعديد كانوا يستريحون تحت ظلال الأشجار أمام المقار الشرطية. وصلت قوة خاصة من الشرطة، حياها الناس بهتافات احترام لدورهم في ردع الانقلاب، وأهداهم البعض الورود والبعض الآخر هتف الله أكبر.

لم يكن هؤلاء الناس يشبهون الجيران من الحي، ولكن من أحياء أنقرة الأكثر فقرا، وغالبيتهم من الذكور يتحدثون بلهجات أناطولية مختلفة، وليست تلك اللهجة الحضارية المعروفة، والبعض يلبسون الزي الإسلامي التقليدي مثل العرب. استخدم العديد أيديهم لرفع شعارات مثل إصبع السبابة للأعلى مع التكبير رمزا للإسلاميين أو شعار الذئب الرمادي رمزاً لحزب القوميين. هؤلاء الناس هم من واجهوا دبابات العسكر.

ازدحم الناس حول المقار الشرطية، ولم تستطع الشرطة إقناعهم بالعودة إلى منازلهم. اعتلى قائد شرطي شيئا ما رافعا صورة لـ«أردوغان» وهتف في الناس بالعودة لمنازلهم، وأخد الناس يهتفون مطالبين بإعدام الانقلابيين من العسكر.

مع وقت الظهيرة بدأت الأعداد تتوافد، بدأ ظهور النساء والشباب الذين يلبسون السراويل القصيرة والفتيات بدون حجاب، الآن بدأ العلمانيون الانضمام للحفلة. بدأ الآن سماع النشيد الوطني وأغنية (مسيرة عشرة أعوام) وكلاهما أعتقد من فعل العلمانيين، لكن الحشود الغفيرة تفاعلت مع ذلك، حيث كان الجو احتفاليا.

من الصعب توقع ما ستؤول إليه الأوضاع في تركيا بعد هذه المحاولة الفاشلة، بالتأكيد سيستفيد العديد من الأطراف مما حدث، وخصوصا شركات إعلامية مثل دوغان للأخبار التي تملك سي إن إن التركية، التي ستبرز مقاومتها للانقلاب بالرغم من اقتحام مبناها.

لكن الأكيد أن أحداث 15 يوليو/تموز سيتم اعتبارها لحظة محورية لليمين السياسي. كان «أردوغان» وحزبه يستعدون ذهنيا للانقلاب منذ أن اعتلوا السلطة في عام 2002. كانت اللحظات الأخطر في السنين الأولى، لكن إمكانية الانقلاب لم تغيب عن عقولهم. ومن الحقيقي أن هذا الانقلاب افتقر للكفاءة والتخطيط الجيد مقارنةً بالانقلابات السابقة، لكن هذا لا يشكل أهمية. وخلال 15 عاما من وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة، أصبحت الآن القاعدة المحافظة تشعر بتملك الوطن أكثر من أي وقت مضى.

ومن الصعب التوقع إلى أين ستسير الأوضاع من هذه النقطة. في أسوأ الأحوال، سيشجع الانقلاب العدالة والتنمية لإخراج أسوأ صفاته وإطلاق يد النظام الحالي في خطوات ربما تجعل البلد غير مضيافة للآخرين بعد الآن. وفي أحسن الأحوال، سيؤدي إلى توحد القوى في السياسة التركية والذي بدوره يؤدي لإجماع جديد. مع الوقت سوف نعرف.

«سليم كورو»: المحلل والكاتب في شئون السياسة والاقتصاد بتركيا.

  كلمات مفتاحية

تركيا أردوغان انقلاب تركيا عدنان مندريس

«جورج فريدمان»: التداعيات المحلية والجيوسياسية للانقلاب الفاشل في تركيا

«نيويورك تايمز»: أمريكا رفضت طلب لجوء قائد قاعدة «إنجرليك» التركية

كيف هزم جهاز الآيفون الدبابات في تركيا؟

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

«ستراتفور»: كيف يمكن أن يؤثر انقلاب تركيا الفاشل على دورها الإقليمي؟