«جورج فريدمان»: التداعيات المحلية والجيوسياسية للانقلاب الفاشل في تركيا

الاثنين 18 يوليو 2016 01:07 ص

في ساعات متأخرة من مساء الجمعة بتوقيت تركيا، بدأنا نتلقى تقارير أن الدبابات كانت تنشر في اسطنبول وأنه تم إغلاق جسرين على مضيق البوسفور من قبل قوات الجيش التركي. في وقت لاحق بعض الشيء، حصلنا على تقارير تفيد بأن المدرعات كانت قد انتشرت في أنقرة، وأن هناك قتالا يدور بين قوات خاصة تابعة للجيش التركي والشرطة الوطنية حول البرلمان. وشوهدت طائرات الـ«إف - 16» بأعداد كبيرة في السماء. كان الانقلاب يجري تنفيذه في ذلك التوقيت.

وطالما كانت الانقلابات العسكرية أمرا شائعا في العالم قبل 30 أو 40 عاما، حيث وقع آخر انقلاب شهدته تركيا في عام 1980. ورغم أن وقوع انقلاب كلاسيكي مع وجود الدبابات في الشوارع وتعرض المباني الحكومية للهجوم بدا أمرا قديما، إلا أنه كان مفاجئا بالنسبة لنا. كان الجيش هو الضامن الدستوري لعلمانية الدولة منذ أن تم فرض العلمانية من قبل «مصطفى كمال أتاتورك» في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى درجة أنه تم منع النساء من ارتداء الحجاب على مدار عقود. لذا فإنه مع صعود «أردوغان» وحزب العدالة والتنمية إلى السلطة مع انتخابات عام 2003 فقد كان الصدام مع الجيش أمرا لا مفر منه. تمكن «أردوغان» من إدارة هذا التحدي بمهارة مدهشة. قام في البداية بتحجيم القوة السياسية للجيش ثم محاولة كسرها. على الرغم من التذمر، وبعض الاعتقالات بشأن محاولات انقلاب لم يقدر لها النجاح،  نجح «أردوغان» في إخضاع مرؤوسيه العسكريين لإرادته.

الانقلاب المفاجئ

نزلت الدبابات إلى الشوارع بطريقة ما أو بأخرى. كان الأمر مفاجئا بالنسبة لنا وحتى بالنسبة إلى أولئك الذين يقولون الآن أنهم كانوا يعرفون أن عملية الانقلاب كانت قادمة. تنظيم انقلاب عسكري ليس أمرا سهلا وينبغي أن يتم التخطيط له بعناية لعدة أسابيع على الأقل. يجب أن يظهر عدة آلاف من الجنود، وكذلك الدبابات وطائرات الهليكوبتر في الشوارع ويتولوا السيطرة بشكل سريع وحاسم: وكل هذا التخطيط لابد أن يتم في سرية تامة، لأنه بدون عنصر المفاجأة لا يوجد انقلاب.

هنا يبدأ حديثنا: كيف يمكن للجيش أن يقوم بتنظيم انقلاب دون أن تتسرب أنباء عنه. أجهزة الأمن والاستخبارات التركية هي أجهزة مهنية وذات كفاءة، وتعد مراقبة الجيش أحد وظائفها الرئيسية. يتطلب التجهيز للانقلاب اجتماعات لا حصر لها. وفي ظل تلك الأجواء من المراقبة: كيف يمكن للجيش أن يحافظ على نواياه قيد الكتمان؟

المخرج الوحيد الذي يمكن أن نجده للأمر هو أن تكون الأجهزة الاستخباراتية مشاركة أيضا. وإذا كان الأمر كذلك فإن اللعبة تكون قد انتهت بالنسبة إلى «أردوغان». أخبرنا مصدر ذو رتبة رفيعة في الجيش التركي أنه لم يكن يدري أن انقلابا كان يتم الإعداد له. ولكنه كان يعرف أن «أردوغان» كان في فندق في مارماريس، على البحر الأبيض المتوسط. تم التخطيط للانقلاب في وقت كان فيه «أردوغان» بعيدا عن أنقرة بحيث يسهل عزله والقبض عليه. وهو تخطيط محكم وبغير تسريب.

بعد ساعات قليلة بدأ الانقلاب، دخلت القوات الموالية لصناع الانقلاب بعض استوديوهات التلفزيون ومكاتب الصف وأجبروا الإعلاميين على إعلان أن انقلابا وقع لاستعادة مبادئ العلمانية التركية التي وضعها «مصطفى كمال أتاتورك». وفي الوقت الذي أخبرتنا به مصادرنا في ذلك التوقيت أن الانقلاب كان يجري تشغيله من قبل الصف الأول من الضباط (وإن لم يكن من رئيس هيئة الأركان)، فقد بدا لنا أنه نجح بالفعل. كان «أردوغان» محتجزا في منتجع على أطراف البلاد وهو يبدو غير قادر على العودة إلى إسطنبول أو أنقرة في الوقت الذي يسيطر فيه الجيش على المطارات ويؤم مراكز الاتصالات. كان هناك قوات تسيطر على ساحة تقسيم مكان التجمع الرئيسي في إسطنبول، مما يعني أن المدينة تحت السيطرة، وبدا أن الأمور تقترب من نهايتها.

وفجأة تغير كل شيء. بدأ «أردوغان» في إصدار تصريحات عبر فيس تايم لقناة NTV التركية. حسنا بدلا من اعتقادنا بأنه تم القبض على «أردوغان»، اعتقدنا أن القوات اكتفت بمحاصرته داخل الفندق مما أعطاه الفرصة للقيام بذلك. كان هذا عمل سيئا من قبل الانقلاب. ولكن «أردوغان» استطاع أن يصعد على متن طائرة في حماية القوات المناهضة للانقلاب وأن يتوجه إلى مطار إسطنبول. كان هذا عمل أكثر سوءا بالنسبة إلى انقلاب. وبدا أن «أردوغان» كان حرا لأنه واصل إطلاق التهديدات. ثم وصلتنا تقارير عن استسلام قوات الجيش المنقلبة أمام الشرطة في ساحة تقسيم وتركها للجسور التي تم إعادة فتحها. وقد أمر «أردوغان» الطائرات الموالية لها بإسقاط المروحيات التي تهاجم مبنى البرلمان في أنقرة.

تحولت الأوضاع من انقلاب ناجح إلى انقلاب فاشل في غضون ساعات. ومع غير المعروف حتى الآن لماذا يتم الإعلان عن اكتشاف المشاركين في الانقلاب في وقت مبكر من أجهزة الاستخبارات.

تداعيات جيوسياسية

ولكن هناك معاني أعمق وتداعيات جيوسياسية أكثر خطورة لمحاولة الانقلاب. ونحن نعلم أن هناك توترات عميقة بين السكان العلمانيين في تركيا، الأكثر انسجاما مع الفلسفة الأتاتوركية والمتمركزين في إسطنبول، وبين مؤيدي «أردوغان» الأكثر تدينا في الأناضول وغيرها. (الأناضول هي منطقة واسعة إلى حد ما، أقل كثافة سكانية، تمتد في المنطقة الشرقية من مضيق البوسفور. سكانها أكثر محافظة وتضم تجمعا كبيرا من الأكراد وبعض الأقليات الأخرى).

تم تهميش هذه الأقليات المتدينة في الأناضول منذ الحرب العالمية الأولى. وقد جاء «أردوغان» إلى السلطة عازما على بناء تركيا جديدة. وهو أردك بوضوح أن العالم الإسلامي يتغير وأن هناك مدا إسلاميا وأن تركيا لا يمكن ببساطة أن تظل سلطة علمانية. بدا أنه تفهم ذلك سواء في السياسة المحلية أو الخارجية.

يبدو «أردوغان» محاصرا بين قوتين. من ناحية هناك الفصائل الجهادية، والذي يبدو أنه يحاول إدارتها من أجل محاولة تفادي ضرباتها للبلاد. وقد وضعته هذه الخطة على خلاف مع الولايات المتحدة وروسيا في آن واحد. كما أنه يتعرض أيضا للضغط من قبل الفصيل العلماني المحلي بسبب هذه الاستراتيجية. في الآونة الأخيرة بدأ «أردوغان» يتحول عن استراتيجية حيث أعاد العلاقات مع (إسرائيل) وقام بتوجيه الاعتذار إلى روسيا. وقام أيضا بالتخلص من رئيس وزرائه الذي يراه البعض أكثر انحيازا للإسلاميين. بدا ذلك محاولة لإعادة التوازن إلى سياسته، ولكن أولئك الذين نظموا الانقلاب رأوا ذلك على أنه علامة على الضعف.

أصبحت تركيا بلدا بالغ الأهمية في المنطقة. وهي المفتاح للتغلب على الدولة الإسلامية في سوريا وحتى في العراق. كما أنها تمثل حجر الزاوية في سياسة الهجرة الأوربية. وهي تواجه روسيا في البحر الأسود. الولايات المتحدة بحاجة إلى تركيا كما كان الحال منذ الحرب العالمية الثانية كما أن روسيا لا تستطيع أن تتحمل مواجهة معها. كلا البلدين لا يحبان «أردوغان»، ولكن ليس من الواضح أن لديهما أي خيارات: ومن المثير للاهتمام أن وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» ووزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» كانا يعقدان اجتماعا ماراثونيا بخصوص سوريا في الوقت الذي كان الانقلاب يجري فيه.

متوالية نظريات المؤامرة في هذا الصدد لا تنتهي، لأن ما حدث في الواقع كان مؤامرة وغالبا ما تكمن أفكار المؤامرات داخل المؤامرات. ولكن دعونا ننتهي إلى ما هو واضح: تركيا تؤثر على الشرق الأوسط وأوروبا وروسيا. وهي أيضا قوة مؤثرة في تشكيل السلوك الجهادي. كان سلوك «أردوغان» متذبذبا بشكل متزايد كما لو كان يحاول أن يستعيد توازنه. الانقلاب يعني أن البعض داخل الجيش يعتقد أنه كان عرضة للخطر، بينما يحاول الآن هو وأنصاره استعادة السيطرة.

يبدو أن الانقلاب انتهى بالفعل ولكن تداعياته ليست كذلك. سوف يطلق «أردوغان» حملة للتطهير داخل الجيش. ومع ذلك، فإن الخوف وحده لا يكفي مع رجال يحملون البنادق ويشعرون أن لا يوجد شيء ليخسروه إذا عادوا للقتال. لا يوجد أي دليل على أن تشكيلات عسكرية كبيرة ساندت «أردوغان». ويبدو أن الجيش منقسم بين أولئك الذين نفذوا الانقلاب وبين من كانوا على الحياد بخلاف الشرطة التي أيدت «أردوغان». على الرغم من «أردوغان» بارع في الظهور أقوى مما هو عليه، فإنه قد بدا ضعيفا بشكل ما وهو يطلب من الناس النزول للشوارع للتعبير عن مساندتهم. لكنه لا يستطيع أن يبدو ضعيفا بعد الآن، وعليه القيام بتحركات مضادة حاسمة إذا كان يملك حقا أن يفعل ذلك.

المصدر | جورج فريدمان - جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

أردوغان انقلاب تركيا الولايات المتحدة روسيا الدولة الإسلامية

«نيويورك تايمز»: أمريكا رفضت طلب لجوء قائد قاعدة «إنجرليك» التركية

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

مصادر: مكالمة قائد الجيش الأول تنقذ «أردوغان» من محاولة اغتياله في مرمريس

«ستراتفور»: كيف يمكن أن يؤثر انقلاب تركيا الفاشل على دورها الإقليمي؟

محاولة الانقلاب التركي الفاشلة.. انقلاب غريب بأسلوب القرن العشرين

ألمانيا: إعادة عقوبة الإعدام في تركيا تنهي محادثات انضمامها للاتحاد الأوروبي

شهادة على ما حدث في أنقرة أثناء محاولة الانقلاب الأخيرة

الخطوط الجوية التركية تستأنف رحلاتها من جديد مع أمريكا

«فورين أفيرز»: لماذا فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونجح في مصر؟

«نبوءة أردوغان»: كيف يجعل الانقلاب الفاشل الرئيس التركي أكثر قوة؟

فشل الانقلاب: الطبقة الوسطى المتدينة ترسم مستقبل تركيا على حساب النخبة الكمالية

دراسة: فشل انقلاب تركيا يصب في مصلحة قوي التغيير في العالم العربي

وزير العدل التركي: فرضنا حالة الطوارئ لنمنع وقوع انقلاب ثانٍ

الليبراليون الخليجيون والانقلابات العسكرية

تركيا بعد الانقلاب الفاشل .. أقرب إلى روسيا وأبعد عن الولايات المتحدة

«بروكنغز»: الجغرافيا السياسية لانقلاب تركيا الفاشل

انقلاب تركيا الفاشل يعمق مشاكل المعارضة السورية

التكلفة الباهظة والفرصة التاريخية لمحاولة الانقلاب الفاشلة