رد الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» على محاولة الإنقلاب التي حدثت الأسبوع الماضي بقوة. فعلى مدى الأيام القليلة الماضية تم عزل أكثر من 50 ألفًا من وظائفهم أو أوقفوا للاشتباه في تورطهم في محاولة الانقلاب الفاشلة، ولارتباطهم بجماعة «فتح الله كولن» التي يقول «أردوغان» أنها تقف وراء هذه المحاولة.
يؤكد قادة تركيا أن فرض حالة الطوارئ يهدف إلى السيطرة على الوضع وللحفاظ على الديمقراطية. لكن العديد من المراقبين ومنهم مراقبون غربيون لم يقبلوا الفكرة، مبررين ذلك بأن هذه الإجراءات سترسخ من سلطة «أردوغان» على حساب الديمقراطية، والأكثر من ذلك أنها ستصبح تحديًا جغرافيًا سياسيًا للغرب.
البندول المتأرجح
تمثل تركيا الجسر الواصل بين آسيا وأوروبا، وتبدو أحيانًا بوجهين فيما يعلق بالقضايا الحكومية، فمن جانب يعبر قادتها أحيانًا عن التزامهم بالنمط الغربي في الحكم المستند إلى القانون والحرية والديمقراطية والشفافية والمساءلة. وعلى الجانب الآخر، تظهر تركيا على نمط مشابه للموجود في روسيا وإيران والصين، من رفض ما يرونه تدخلًا خارجيًا، وتقييد الحريات المدنية والشفافية في الحكومة، وتشديد قبضة الدولة على الاقتصاد.
تم الترحيب بتركيا في حلف الناتو إبان الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من ذلك، ألقت سيطرة الجيش بظلالها على البلاد من ضعف لمعدلات حقوق الإنسان وخاصة حقوق الأقليات. ظن العديد من الناس أن ذلك سيتغير بقدوم «أردوغان» وحزب العدالة والتنمية على رأس السلطة في عام 2002. فقد قدموا إصلاحات سياسية لتلائم توجه تركيا نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي. وتحسن الاقتصاد التركي بصورة كبيرة، فمنذ سنوات قليلة كان الأتراك يهاجرون للعمل في ألمانيا ودول غرب أوروبا، أما الآن، فإن تركيا أصبحت جاذبة للعمالة المهاجرة من دول الجوار. وتدفق السياح ورجال الأعمال والفنانون والرياضيون والطلاب والفنانون مع الكثير من الأموال. واكتسبت تركيا قوة ناعمة في المنطقة، وهذا ما عزز اندماج تركيا في المجتمع الدولي.
لكن الصورة أصبحت قاتمة نوعًا ما. وجددت أحداث الأسبوع الأخير المخاوف حول الديمقراطية في الدولة التركية، لكن هذه المخاوف قد نمت في الحقيقة خلال سنوات. فالتزام تركيا بدعم حرية التعبير وحرية الصحافة وجهود محاربة الفساد وحرية السوق تشوبه الريبة منذ فترة. وتأثر اقتصاد تركيا أيضًا بشكل جزئي بهذه السياسات وبتأثير الهجمات الإرهابية الأخيرة التي دمرت تمامًا صورة الوضع الأمني في تركيا. وانحدر دخل الفرد بنسبة 10% خلال عامين، ويبدو أن ابتعاد تركيا عن النمط الحكومي الغربي سيؤثر أكثر على الاقتصاد ما يجعل وعود أردوغان بجعل اقتصاد تركيا من بين أفضل 10 على مستوى العالم صارت أكثر صعوبة لتحقيقها.
اختيار تركيا لمسارها
هل يؤدي ابتعاد تركيا عن النمط الغربي إلى ابتعادها عن الغرب أيضًا؟ ربما، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2013، وبعد جولات من محادثات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، سعى «أردوغان» لدعم الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» لقبول تركيا في المنظمات الآسيوية. ويعد هذه مكسبًا استراتيجيًا لروسيا على حساب الغرب.
ستكون دول غرب أوروبا والولايات المتحدة الخاسر الأكبر إذا تحركت تركيا نحو المعسكر الروسي. وسيؤدي فقدانهم للشراكة مع تركيا إلى تراجع كبير في مقدرتهم على قتال «تنظيم الدولة» في سوريا والعراق، وسيقلل من احتمالات تحول تركيا سياسيًا للنظام الديمقراطي الغربي في وقت قريب.
الطريق إلى الأمام
وأخيرًا، هل للولايات المتحدة أي دور في هذا؟ كما يؤكد بعض المحللين أن على الولايات المتحدة أن تقدم يد العون في التحقيق مع «فتح الله كولن» الذي يقطن في ولاية بنسلفانيا في إطار اتهامه وجماعته بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة. يمكن للولايات المتحدة استغلال ذلك الأمر في إعادة بناء الثقة بينها وبين أنقرة، وتهدئة اتهامات تركيا للولايات المتحدة بالضلوع في المحاولة الانقلابية، كما يساعد الولايات المتحدة في بناء مصداقية أمام العالم في الاستناد لحكم القانون. وكعضو في حلف الناتو، يهم الولايات المتحدة أن تعرف من وراء المحاولة الانقلابية.
ولا يعني هذا الآن تقليل العبء الواقع على كاهل أنقرة، فعلى الحكومة التركية ألا تنسى أن احترامها للحريات المدنية ولحكم القانون قد ساعداها في اكتساب احترام جزء كبير من المجتمع الغربي. ومن المحبط أن داعمي «أردوغان» وحزبه لم يستفيدوا من إمكانات بلدهم. فمن بين دول العالم الإسلامي، شهدت تركيا التقدم الأفضل نحو قيم الديمقراطية والنمو الاقتصادي. ولازال العديد من الناس يؤمنون بوجود تركيا رغم الإنتكاسات الأخيرة. ولكن لاستعادة تلك المكاسب من جديد، فعلى قادة تركيا التحرك بحذر وبمنطقية.