قوة كبرى رغم مشاكلها.. الانقلاب الفاشل لن يؤثر على الدور الإقليمي لتركيا

الأربعاء 10 أغسطس 2016 11:08 ص

ليست الأوقات العصيبة بغريبة على تركيا، فقد عانت الجمهورية التركية ومن قبلها الإمبراطورية العثمانية من الغزو الأجنبي والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية. ومؤخرًا، كانت تركيا على موعد جديد مع الأوقات الشاقة. فالدولة تواجه تهديدات مسلحة داخلية وعلى الحدود ما يؤثر أيضًا على السياحة التي تعد عصبًا من أعصاب الاقتصاد. وفي الوقت الذي تقوم فيه حكومة أنقرة بإعادة هيكلة الجيش، عليها أن تتعامل مع حكومة معادية بالجوار في سوريا، والتي تحالفها روسيا التي بدأت مؤخرًا فقط في إصلاح العلاقات مع تركيا، كما تسببت محاولة الانقلاب وما تبعها من إجراءات في توتر العلاقة مع حلف الناتو.

ودائمًا ما كان موقع تركيا الجغرافي المميز، بكونها البوابة الواصلة بين أوروبا والشرق الأوسط، سببًا في مواجهتها للمتاعب مع كل تطور جغرافي يحدث تاريخياُ في أوروبا أو الشرق الأوسط.

قيام وسقوط العثمانيين

شكلت الجغرافيا مجرى التاريخ التركي منذ فترة طويلة قبل أن تصل تركيا إلى شكلها الحالي. فبعد أن هزم العثمانيون الإمبراطورية البيزنطية أخيرًا في عام 1453، سيطروا على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا لسنوات طويلة، واستطاعوا غزو مناطق واسعة من أوروبا والسيطرة عليها وكذلك من الشرق الأوسط. وحتى موت السلطان «سليمان الكبير» عام 1566، ظلت الإمبراطورية العثمانية أحد القوى العظمى في أوروبا والعالم، ولم تتوان في طموحها للسيطرة على كامل القارة حتى هزمت في معركة فيينا عام 1683.

وكما لعبت الجغرافيا دورًا رئيسيًا في نهوض الدولة العثمانية، كانت أيضًا لاعبًا رئيسيًا في انهيارها. فمع اكتشاف طرق أخرى للتجارة بين أوروبا والأمريكتين والشرق الأقصى، تأثر الاقتصاد العثماني، كما تسبب موقعها الجغرافي المسيطر على البوسفور وموقعها من البحر الأسود في جذب اهتمام الإمبراطوريات الصاعدة ولاسيما الروس. فالعملاقان قد تصارعا في 11 معركة، ما يؤكد تنافسًا طويل الأمد بينهما.

وجاءت الفترة الأخطر في تاريخ تركيا في المسافة الزمنية بين دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى وانتهاء حرب تركيا من أجل الاستقلال وهي الفترة بين عامي 1919 و1923. وكان بقاء تركيا ككيان موحد له السيادة على أرضه على المحك في هذا الوقت، إلا أن انتصار الأتراك في معركة الاستقلال، وما تبع ذلك من إنشاء للجمهورية التركية، أنقذ تركيا من على شفا الانهيار. لكن الأتراك فقدوا في سبيل ذلك إمبراطورية عظيمة، على الرغم من حفاظهم على موقعهم الاستراتيجي على البوسفور والدردنيل وبوابة الشرق من قلب الأناضول.

حليف استراتيجي

خلال الحرب العالمية الثانية، وبسبب موقع تركيا الجغرافي، بالإضافة إلى جيشها الكبير، سعت قوات المحور وكذلك قوات الحلفاء للتحالف معها. فمع غزو دول المحور لروسيا عام 1941، كان الجيش التركي في موقع قاب قوسين أو أدنى من حقول النفط المسؤولة عن إنتاج 90% من إنتاج روسيا من النفط ذلك العام. كما كان من الممكن لتركيا، علاوة على ذلك، أن توفر نقطة انطلاق لقوات المحور لضرب المواقع البريطانية في الشرق الأوسط.

ظل الحلفاء يغازلون الأتراك بصبر شديد، فتعاون أنقرة كان ليسهل الإمدادات للروس لمنع غزو الألمان لروسيا. وكان« ونستون تشرشل» حريصًا على كسب جانب الأتراك بإعطاء الأوامر للجنرال «أرشيبالد ويفل» لتحويل الجزء الأكبر من قواته من ليبيا إلى اليونان على الرغم من أنه كان يحقق انتصارات كبيرة على الإيطاليين. وظن «تشرشل» أن الأتراك سيهتمون أكثر بالتدخل إذا علموا أن اليونان في صف ألمانيا، لكن هذه الحركة كانت سوء تقدير حيث أعطت الوقت لقوات المحور لتحصين شمال أفريقيا حيث لم تنته الحرب بها إلا في عام 1943. وكانت تركيا قد تعلمت الدرس من الحرب العالمية الأولى، حيث نأت بنفسها عن الصراع حتى الأشهر الأخيرة حين انضمت أخيرًا لطرف قوات الحلفاء الذين كانوا في طريقهم للانتصار.

من جديد وخلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وبسبب موقع تركيا على البوسفور والدردنيل، حدثت توترات جديدة بين روسيا وتركيا، حين ضغط الاتحاد السوفييتي على تركيا للسماح له بالمرور مجانًا وبحرية عبر المضائق، إلا أن هذا الضغط قد تسبب في عواقب غير مقصودة. ففي الوقت الذي طمعت فيه روسيا طويلًا لبسط نفوذها على مضيق الدردنيل وتوسعة حدودها على حساب تركيا، رأى حلف الناتو تركيا وسيلة لمنع الاتحاد السوفييتي من الوصول للبحر المتوسط والشرق الأوسط. وتسببت أطماع موسكو في اتجاه تركيا نحو التحالف، واستجابت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لذلك بشكل إيجابي. وأعلن الأمريكيون عن مبدأ ترومان والذي نص على مساعدات ودعم كبير للأتراك.

وفي ضوء أفعال روسيا، كان خيار تركيا بالانضمام لحلف الناتو عام 1952 بعد ثلاثة سنوات فقط من إنشائه طبيعيًا، وظلت تركيا مفتاحًا هامًا طوال سنوات الحرب الباردة بعد ذلك، رغم مرورها بأوقات متتابعة من الاستقرار والأزمات، بما في ذلك عد من الانقلابات، وغزو تركيا لقبرص والعداء مع اليونان زميلتها كعضو في تحالف شمال الأطلسي الناتو.

قوة عظمى.. على الرغم من مشاكلها

عادت تركيا الآن إلى أوقات عدم الاستقرار. فالصراع على أشده مع حزب العمال الكردستاني، ومع محاولة الانقلاب الأخيرة، يتركز جل اهتمام أنقرة على الداخل. وفي الوقت ذاته، تتعرض لتهديدات خطيرة على حدودها، بالإضافة إلى تفاقم الاضطرابات الداخلية في البلاد. وعلى الرغم من أن هذه المشاكل ربما تعيق تقدم تركيا في قادم السنوات، إلا أن ذلك لا يمنعها من الحفاظ على دورها الاستراتيجي في المنطقة.

وتستمد تركيا كثيرًا من تأثيرها ونفوذها من كونها عضوًا بتحالف شمال الأطلسي الناتو، إلا أنها ومنذ محاولة الانقلاب الأخيرة قد وجهت الكثير من اللوم ضد الغرب، ولاسيما ألمانيا والولايات المتحدة التي تشير إليهما بالاتهام في التورط في محاولة الانقلاب الفاشلة. وعلى الرغم من هذا التوتر، لا يبدو أن ذلك سيؤثر على مصلحة حلف الناتو في تركيا. فكما دفع الاتحاد السوفييتي حلف الناتو لدعم تركيا في الماضي بسبب الحرب الباردة، فتحركات روسيا هذه الأيام قد عزت من أهمية تركيا للحلف. كما أن تركيا هامة جدًا للولايات المتحدة كحليف في الضربات الجوية الموجهة ضد تنظيم الدولة.

وبهذا تصبح عضوية تركيا في حلف الناتو آمنة، وهذا ما يجعل تركيا تتعامل مع روسيا من منطق قوة، على الرغم من سعي تركيا لإصلاح علاقتها مع موسكو. علاوة على ذلك، يمكن لتركيا استغلال نفوذها في حلف الناتو في الحصول على تنازلات من موسكو. على سبيل المثال، يمكن لتركيا تخفيض دعمها لمبادرة البحر الأسود إذا ما قدمت روسيا تنازلات في سوريا. لكن مع هذا، يتعين على تركيا التعامل بحذر وإدراك حدود تأثيرها داخل الحلف، حتى لا يؤثر ذلك على مكانة عضويتها. لذلك، فمن غير المرجح أن تتخذ تركيا خطوات جريئة وجذرية مثل طرد القوات الأمريكية من أرضها.

لقد تسببت محاولة الانقلاب الأخيرة في تفاقم عدد من المشكلات في تركيا، ولاسيما أن استقرارها الداخلي الذي صار على المحك. وبالنسبة لأنقرة، جاء الانقلاب في وقت سيء، حيث عطل الجيش في ذروة معركته ضد المتمردين والتهديدات الخارجية من المتشددين. ومع ذلك، وبالنظر للتاريخ، سيكون من الخطأ إسقاط تركيا من الاعتبارات العالمية. فعلى الرغم من أن أنقرة ربما تكون مشتتة في مشاكلها الخاصة على المدى القصير، تظل ميزتها الجغرافية ضامنة لأهميتها ولدورها الإقليمي والعالمي.

المصدر | ستراتفور

  كلمات مفتاحية

تركيا روسيا الولايات المتحدة انقلاب تركيا أردوغان

روسيا أم الولايات المتحدة: أين تتجه بوصلة تركيا بعد الانقلاب الفاشل؟

«أردوغان»: على أمريكا أن تلزم حدودها .. وهناك دول لم تهنئنا وقفت مع الانقلاب

فشل الانقلاب: الطبقة الوسطى المتدينة ترسم مستقبل تركيا على حساب النخبة الكمالية

«فورين أفيرز»: لماذا فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونجح في مصر؟

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

فشل الانقلاب وانتصار حلب: إلى أي حد ستتغير السياسة التركية؟

تركيا والصراع على النموذج الإقليمي

تركيا تهدد على لسان وزير خارجيتها بمغادرة «الناتو»