روسيا أم الولايات المتحدة: أين تتجه بوصلة تركيا بعد الانقلاب الفاشل؟

الأحد 7 أغسطس 2016 02:08 ص

لقد مر وقت كاف منذ محاولة الانقلاب لبدء تقييم الوضع، وقد برز الرئيس «رجب طيب أردوغان» بوضوح بعد الانقلاب في موقف أقوى من ذي قبل. خارج المنطقة الكردية، وبدلا من أن يقسم الانقلاب البلاد، فقد  أدى إلى درجة أكبر من الوحدة، بدرجة غير مسبوقة.

يقوم «أردوغان» حاليا بإعادة هيكلة المؤسسات التركية، من الجيش إلى المدارس إلى وسائل الإعلام، ضمن المساعي التي من شأنها دعم كل نواياه على المدى الطويل. وبالرغم من أن عاقبة إعادة هيكلة المؤسسات التركية غير واضحة، فإنها توفر له قوة هائلة، ولكن السؤال المهم هو ما ينوي القيام به بتلك القوة.

اسمحوا لي أن أبدأ بنقطة مهمة. هناك أربع قوى كبيرة في المنطقة، ولكل منها القدرة على الدفاع عن نفسها وإبراز درجة معينة من القوة. وهي المملكة العربية السعودية وإيران و(إسرائيل) وتركيا. ومن هؤلاء الأربعة، فإن تركيا فقط لديها الحجم، القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي لتشكيل المنطقة.

على الأرض، (إسرائيل) هي أقوى هذه القوى، ولكن حجمها يحد من إسقاط نفوذها على جيرانها القريبين. لديها نفوذ سياسي، ولكن هذا لا يزال محدودا بسبب حقيقة أنها دولة يهودية. كما أن المصدر الرئيسي للقوة في  السعودية هو المال، ولكن انخفاض أسعار النفط قد يقوض هذا التأثير، في حين أن الجيش، كما رأينا في اليمن، لم يتطور بما فيه الكفاية في فاعليته. أما قوة إيران فهي محدودة بسبب الجغرافيا، وقدرتها على الحفاظ على القوات العسكرية واسعة النطاق عبر جبال زاغروس محدودة مما يضطرها إلى تعزيز قوتها من خلال وكلاء ذوي قوة محدودة.

إن تركيا وحدها لديها مزيج من القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لتصبح قوة إقليمية كبرى. وعلى مدى أكثر من نصف الألفية، ولفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كانت تركيا القوة الإقليمية المهيمنة. واليوم، فإن لديها أكبر اقتصاد وأكبر قوة عسكرية في المنطقة، وبالتالي يجب أن يكون لها أكبر تأثير.

ومع ذلك، في حين أن اقتصاد تركيا نما بشكل كبير منذ تولى حزب العدالة والتنمية السلطة، إلا أن يتباطأ، ويجب أن يتطور. أما الجيش فقد يكون الأكبر في الشرق الأوسط، ولكن الكثير من حجمه يأتي من المجندين في الخدمة على المدى القصير وهم غير مدربين بشكل فعال. كما أن معداته لم تتطور منذ الحرب الباردة، والكثير من عقيدته العسكرية لا تزال تتطور. وليس من الواضح أن المؤسسات الأخرى في تركيا، مثل  الاستخبارات الخارجية، هي في حالة مهنية ملائمة لقوة كبرى. وعلى حد سواء، فإن السياسة الداخلية والإقليمية تبدو محدودة الخيارات.

لذا تجنبت تركيا الإفراط، حيث تدرك أن الهزيمة ممكنة مما سيعطل التطور التركي. وأدت سياسة التفكير بالتمني أكثر من الواقع، إلى تخيل عدم وجود أعداء. ثم انتقلت تركيا إلى سياسة الاشتباك المحدود على طول الحدود، ثم زيادة الانفتاح على القوى البعيدة مثل (إسرائيل) وروسيا. إنها سياسة بالغة الدقة، تعمد إلى التحول من العداء إلى الحياد إلى تعاون محدود والعودة مرة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف.

 يعطي الانقلاب «أردوغان» فرصة لإعادة تشكيل مؤسسات تركيا بطريقة لم تكن ممكنة قبل الانقلاب. حيث واجه «أردوغان» قبل الانقلاب، معارضة كبيرة. والآن أعطى الانقلاب له فرصة لإعادة هيكلة الجيش والمخابرات وغيرها من المؤسسات لإعطاء تركيا مجالا أكبر للمناورة في المنطقة. الانقلابات الفاشلة، عندما يتم سحقها تماما تفقد مصداقيتها، تحدث زيادة كبيرة في قوة الحكومة التي استهدفتها. ويبدو «أردوغان» جاهزا للاستفادة من ذلك.

بداية من هذا الانقلاب، فإن القيود التي منعت تركيا من امتلاك كامل إمكاناتها في المنطقة سوف تبدأ بالزوال. في هذه اللحظة، تواجه تركيا فوضى عارمة في جنوبها، و درجة من عدم الاستقرار في القوقاز، إضافة إلى المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا الصاعدة في البحر الأسود. والنفوذ الروسي في البلقان آخذ في الارتفاع، لاسيما في صربيا. تبدو المنطقة محفوفة بعدم الاستقرار، ولم تكن تركيا قادرة على وقف ذلك. أما الآن فإن إعادة الهيكلة تفتح الباب أمام تركيا لتصبح أكثر حزما في المنطقة.

في السنوات الأخيرة، كانت سياسة تركيا تكتيكية بشكل كبير. فقد انتقلت من تهديد إلى تهديد ومن الفرصة إلى الفرصة دون استراتيجية واسعة.ومع تزايد التهديدات في البيئة الحالية، أصبح النهج العام الحالي أقل قابلية للاستمرار. عدم القدرة على التنبؤ بالوضع في الجنوب إلى جانب التهديدات المحتملة من كل اتجاه تجبر تركيا على النظر في زيادة سيطرتها على الوضع. في هذا السياق، يجب أن يتم استبدال السياسة التكتيكية باستراتيجية وطنية.

ثلاثة خيارات

أمام تركيا الآن ثلاثة خيارات. الأول هو محاولة إدارة مصالحها. والثاني، هو محاولة التحالف مع روسيا للإدارة المشتركة في المنطقة. والثالث هو العودة إلى التحالف المسبق مع الولايات المتحدة.

إن خيار الاعتماد على الذات دائما ما يكون جذابا. ومع ذلك، فإن تركيا تباشر عملية إعادة بناء المؤسسات. وفي الحد الأدنى، سوف تستغرق هذه العملية عشر سنوات من الساسة قبل الوصول إلى مرحلة الاعتماد على الذات. وحتى بعد هذه النقطة، فإن القوى العسكرية الإقليمية لها مصالح اقتصادية عالمية، وهذا التباين يخلق تبعيات خارج السيطرة. وسوف تحتاج تركيا إلى حلفاء حتى لو أصبحت قوة على الصعيد الإقليمي.

يظل التحالف مع روسيا ذو مغزى. الاستراتيجية المثلى هي أن القوتين الأضعف تتعاونان لمواجهة السلطة الأقوى. بعد حرب فيتنام، تحالفت الولايات المتحدة مع الصين لمواجهة السوفييت. الخطر في هذه الاستراتيجية هو أن واحدة من القوى المتحالفة قد تكون أضعف من الأخرى، أو أن أيا منهما فجأة قد تتحول فجأة عن التحالف. الروس بحاجة واضحة لتركيا لمواجهة الولايات المتحدة، وتركيا يمكن أن تستخدم روسيا لنفس الغاية. ولكن إذا ضعفت روسيا بسبب المشاكل الاقتصادية، أو توصلت إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول أوكرانيا، فقد تجد تركيا نفسها وحيدة.

المشكلة في التحالف مع الولايات المتحدة هي أن اختلال موازين القوى يجعل تركيا عرضة للتحولات في السياسة الأميركية. يمكن للولايات المتحدة القيام باستراتيجيات ليست في مصلحة تركيا والعمل على إجبار تركيا على دعمها وتخصيص موارد بشكل غير منطقي. أما روسيا فلديها سياسة في سوريا تعارض تركيا. والولايات المتحدة لديها سياسة هي الأخرى ولكنها أقل وضوحا بكثير. الولايات المتحدة أكثر خطورة من روسيا في هذه الحالة، حيث يمكن توقع تصرفات روسيا بالنسبة لتركيا، أما الولايات المتحدة فهي تمتلك أسوأ سمة يمكن أن تتوفر في الحليف وهي: عدم القدرة على التنبؤ.

هناك عنصر آخر في هذا الحساب. روسيا أقرب كقوة إلى تركيا، والولايات المتحدة تغرد بعيدا، بمعنى أن روسيا تعد منافسا في المنطقة. وللولايات المتحدة حصة أقل من ذلك بكثير في المنطقة من روسيا وهي، بالتالي، على الرغم من كل السلبيات بالنسبة لتركيا، فهي خيار أكثر أمانا.

في القرن الماضي، كان الخيار الروسي مطروحا. وقد رفض دائما هذا الخيار بسبب القرب و الرهانات العالية جدا. الولايات المتحدة هي أقل قابلية للتنبؤ على وجه التحديد لأنها كانت أقل خطرا.

هل كانت الولايات المتحدة وراء الانقلاب؟

في اتخاذ الخيار، هناك أيضا مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة وراء الانقلاب. أنا لست في وضع يمكّن من المعرفة في حين أن كل شيء يعد ممكنا، ولكن أنا لا أميل إلى الاعتقاد بهذا لسبب بسيط. حيث أن الولايات المتحدة تحاول أن تخلص نفسها من المنطقة من خلال السماح للقوى إقليمية بإدارتها.

وهذا يعني أن إضعاف تركيا يتعارض مع المصالح الأمريكية. وإذا افترضنا أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كفؤة كما يحب الأتراك الاعتقاد، ثم فإنه كان ينبغي أن تعرف أن الانقلاب يخطط له ويدار من قبل غير الأكفاء وأن النتيجة الوحيدة إذا نجح الانقلاب ستكون الفوضى في تركيا. الولايات المتحدة تريد الانسحاب من المنطقة، وهذا أمر مستحيل ما لم تكن تركيا قوية. الفوضى في تركيا هي آخر شيء قد تريده الولايات المتحدة. إن رعاية الولايات المتحدة للانقلاب، إذا صحت فمن المرجح أن تكون لأسباب جيوسياسية، ومن الواضح أنها قد تتسبب في أخطار لا يمكن تبريرها. من وجهة نظري، كان انتصار «أردوغان» على الانقلاب يصب في المصلحة الأمريكية أكثر بكثير من بقية البدائل.

تبذل تركيا الآن جهدها من أجل الانتقال من كونها قوة ثانوية إلى قوة إقليمية كبرى. الضغط الشديد على النظام السياسي التركي، أدى إلى توليد الانقلاب الذي جعل «أردوغان» أقوى من أي وقت مضى. وهذا ما توقعته أيضا منذ عقود. ولكن في هذه النقطة، فإن الواقع الجيوسياسي الأساسي يقول أن مححدات السياسة الخارجية التركية تجعل العلاقة مع الولايات المتحدة أكثر عقلانية من العلاقة مع روسيا أو حتى من العمل وحدها. لقد تم تصميم السياسة الخارجية لتعمل مع الخيارات المتوفرة. قوة تركيا في تزايد ولكنها لم تصل بعد إلى النقطة التي يمكنها أن تخترع خيارات جديدة. سوف يكون هناك ضغط مفرط على كلا الجانبين ولكن في النهاية، أعتقد أن التحالف التركي الأمريكي سوف يعاود الظهور.

المصدر | جورج فريدمان - جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

تركيا أردوغان روسيا انقلاب تركيا الولايات المتحدة

«أردوغان»: على أمريكا أن تلزم حدودها .. وهناك دول لم تهنئنا وقفت مع الانقلاب

فشل الانقلاب: الطبقة الوسطى المتدينة ترسم مستقبل تركيا على حساب النخبة الكمالية

«فورين أفيرز»: لماذا فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونجح في مصر؟

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

«ستراتفور»: كيف يمكن أن يؤثر انقلاب تركيا الفاشل على دورها الإقليمي؟

«أردوغان» في سانت بطرسبورغ الثلاثاء لإعلان استئناف العلاقات مع «بوتين»

«أردوغان»: زيارتي إلى روسيا ميلاد جديد للعلاقات

«حرييت ديلي نيوز»: تفاصيل الدبلوماسية السرية التي أنهت الأزمة بين تركيا وروسيا

«جاويش أوغلو»: تركيا تمتلك المقدرة والنضوج وتحارب أعداء الديمقراطية بالديمقراطية

«سلمان العودة»: تركيا نموذج ديمقراطي لا مثيل له في المنطقة

قوة كبرى رغم مشاكلها.. الانقلاب الفاشل لن يؤثر على الدور الإقليمي لتركيا

فشل الانقلاب وانتصار حلب: إلى أي حد ستتغير السياسة التركية؟

لقاء «بوتين» و«أردوغان»: هل تتغير خارطة تحالفات الشرق الأوسط؟

«فورين أفيرز»: العلاقات التركية الروسية تتحسن.. لكن هل ستستمر؟

ماذا تعني استعادة العلاقات التركية الروسية بالنسبة إلى الشرق الأوسط؟

كيف يمكن للتقارب الروسي التركي أن يؤثر على الأزمة في سوريا؟

واشنطن ليست قلقة من تقارب روسيا وتركيا.. وهي مخطئة في ذلك

«مركز وودرو ويلسون»: كيف ستتأثر العلاقات التركية الأمريكية في أعقاب محاولة الانقلاب؟

هل تعد زيارة «بايدن» إلى أنقرة الفرصة الأخيرة للعلاقات التركية الأمريكية؟

«جورج فريدمان»: المشكلات الكامنة في تحالف كل من تركيا وإيران مع روسيا

«أوباما» يتعهد أمام «أردوغان» بالمساعدة في تقديم مدبري الانقلاب إلى العدالة