بدا العالم مبهوتاً أمام صورة الطفل عمران ذي السنوات الخمس الذي أخرج من تحت ركام مبنى دمرته القاذفات الحكومية في حلب، وقد علت وجهه المغطى بالغبار والدماء تعابير الصمت البليغ وهو جالس على مقعد في سيارة الإسعاف يتحسس جراحه.
ونُقل، فيما بعد، عن الممرضة التي عالجت الطفل أنه لم يبك أثناء تلقيه العلاج، ولم يقل أي كلمة ما عدا السؤال عن والديه اللذين تم إنقاذهما بعده، وبمجرد أن رآهما بدأ بالبكاء.
كم من عمران تحت الركام في حلب وفي المدن السورية الأخرى، وفي مدن وبلدات عربية أخرى منكوبة بالحروب؟ وكم من الأشلاء الممزقة التي أمكن انتشالها من تحت الأنقاض بعد أن فاضت أرواح أصحابها، فيما بقيت أشلاء أخرى ملتصقة بالحجر المدمر، ومطمورة تحت ركامه الذي لم يكن بوسع فرق الإنقاذ بلوغه؟
أسئلة موجعة يثيرها الفيديو الموجع للطفل عمران، الذي شاءت الأقدار أن تكون هناك كاميرا صورته وهو في تلك الحال من الصدمة المروعة، لكن الكاميرا لا تكون هناك دائماً، وكم من المآسي والفواجع اليومية التي لا نراها، لأن الكاميرا وأصحابها عاجزون، أو ممنوعون، من أن يصلوا إلى مكانها.
كم عدد الأطفال الفلسطينيين ممن هم في عمر محمد الدرة، الذي رأى العالم كله جريمة قتله في بث مباشر على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، يقتلون بذات البشاعة والفظاعة، لكن لا كاميرا هناك توثق قتلهم، وحين يأتي الخبر في نشرات الأخبار يبدو محايداً وبليداً عن قتل مدنيين، بينهم، أطفال، لكن العالم لن يعرف ولن يسمع بأسمائهم، ولن يكون بوسعه تخيل الطريقة البشعة لقتلهم، لأن هذا العالم ألِف أخبار القتل في البلدان المبتلاة بالاحتلال والبطش والطغيان.
يصعب عد القرى التي حرقها الجنود الأمريكان وعملاؤهم في فيتنام، وعد آلاف البشر الذين حرقتهم قنابل النابالم محرمة الاستخدام، ولكن صورة واحدة للطفلة الفيتنامية كيم فان التقطها المصور نيك أوت عام 1972 هزت العالم، حين أظهرتها وهي تجري عارية في اتجاه الكاميرا وهي تصرخ من آلام احتراق جسدها.
بعد عدة سنوات صرحت الفتاة بأنها كانت تصرخ باكية: «ساخن جداً.. ساخن جداً». في حينها شكك الرئيس الأمريكي نيكسون في صحة الصورة، تماماً كما يفعل القتلة في كل مكان حتى الساعة.
الطفلة لم تمت كما مات محمد الدرة، ظلت شاهدة على جريمة ضد شعب بكامله. والطفل عمران خرج حياً من تحت الركام، وسيأتي يوم يكبر فيه ويصبح رجلاً، ليدلي بشهادته عن مرحلة سوداء في تاريخ وطنه الذي تكالبت عليه غربان القتل والموت من كل فج عميق.
* د. حسن مدن كاتب من البحرين