موسكو وواشنطن: حتمية المواجهة؟!

الأحد 16 نوفمبر 2014 09:11 ص

لا شك بأن الطريقة التي ستنتهي بها المواجهة الراهنة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ستترك تأثيرا كبيرا على النظام الدولي الراهن وتحولاته المقبلة. فالأزمة الأوكرانية، في حقيقة الأمر، ليست هي الأزمة الوحيدة في هذه المواجهة، التي تكمن جوهرياً في مسألة أساسية تتعلق بمدى أحقية روسيا كدولة كبيرة في تحقيق «بعض الهيمنة»، ولو الإقليمية، والتحول إلى أحد الأقطاب المستقلة، ولو نسبياً، في عالم التعددية القطبية القادم وفي ظل المنظومة الرأسمالية المُسيطرة على عالمنا.

يعتقد خبراء روس في العلاقات الدولية أن هذه المواجهة تمثل عاملاً حاسماً في تحديد مستقبل النظام الدولي، الذي سيحل محل الفترة الممتدة منذ انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق.

ويطرح خبراء روس سيناريوهين لطبيعة المواجهة الروسية ـ الأميركية الحالية ومستقبلها. ويهدف السيناريو الأول، وهو الأميركي، إلى إجبار روسيا على التخلي عن مشاريعها «التوسعية» الاقليمية، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي في الساحة السوفياتية السابقة، والتخلي أيضا عن محاولة ضم أوكرانيا إلى مثل تلك المشاريع، واسترجاع القرم من روسيا مجدداً. ولكن كل هذه الأهداف الأميركية لا يمكن تحقيقها، كما نرى، في ظل النظام الحالي في روسيا. ولذلك يرى هذا التيار من الخبراء الروس أن واشنطن تسعى إلى استبدال نظام الحكم في روسيا، ومن ثم إعادة موسكو إلى الالتزام بقواعد تسعينيات القرن الماضي في عهد يلتسين، ودفن كل حديث عن روسيا كأحد مراكز القوة، على الأقل، على المستوى الاقليمي في المنطقة الاوروبية ـ الآسيوية.

ولا يستبعد هؤلاء الخبراء أن يؤدي هذا السيناريو الأميركي إلى تجدد النزعات الانفصالية في روسيا، واحتمال فقدان القرم ومناطق روسية أخرى.

وإذا تتبعنا بدقة السياسة الأميركية تجاه روسيا في الأزمة الأوكرانية، فسنجد تشابهاً كبيراً مع ما كان يسمى بــ«سياسة الردع» التي اتبعتها واشنطن تجاه الاتحاد السوفياتي السابق. وبُنيت هذه السياسة على أساس النظر للاتحاد السوفياتي كخصم على الساحة الدولية، يتطلب التعامل معه خططاً طويلة الأجل لردع ميوله «التوسعية». وانعكست هذه السياسة في «مذهب ترومان» لعام 1947، وفي إنشاء «حلف شمال الأطلسي» في 1949. كما تضمنت استخدام الحصار الاقتصادي ضد الاتحاد السوفياتي وإقامة شبكة من القواعد العسكرية حوله. وهذا يتطابق، إلى حد كبير، مع ما تقوم به واشنطن اليوم مع موسكو «الرأسمالية»، حيث العقوبات الاقتصادية وتزايد الوجود العسكري الأميركي و«الأطلسي» حول روسيا.

ولا تخفي الولايات المتحدة الأميركية رغبتها في عزل روسيا اقتصادياً وسياسياً في غضون السنوات المقبلة. ويتردد أن الرئيس «أوباما» قد توصل مؤخرا إلى استنتاج مفاده أنه حتى لو تم التوصل إلى حل للأزمة الأوكرانية، فلن تكون لديه علاقات «بنّاءة» مع الرئيس «بوتين»، وذلك برغم لقائهما ومحادثاتهما «العابرة» على هامش قمة منتدى التعاون لدول آسيا والمحيط الهادئ «أبيك» في بكين، ويبدو أن واشنطن خلال الفترة المقبلة ستمارس المزيد من الضغط على موسكو. وفي هذا السياق قد يلعب تسريع نشر الدرع الصاروخية الأميركية الأطلسية في أوروبا الشرقية دوراً مهماً في سياسة الردع الأميركية تجاه روسيا.

ويعتقد الروس أن تنفيذ السيناريو الأميركي لن يمثل ضربة قوية لروسيا وحدها بل لمراكز القوة الجديدة الصاعدة كافة، ولمحاولات تأسيس نظام التعددية القطبية. وأن هذا، بدوره، سيُغير خريطة توزيع القوى الدولية والاقليمية ومسار التطور الدولي. وسيدفن عمليا الخطاب المُنتشر في السنوات الأخيرة حول تراجع وضعف القبضة الأميركية على العالم. ويعتقد الروس أيضا أن هذا السيناريو سيمنح مبدأ «الزعامة الأميركية للعالم» حياة جديدة، وأن الصين ستكون الخاسر الأكبر بعد روسيا.

أما السيناريو الثاني، وهو السيناريو الروسي، فهو يعتمد على افتراض اعتراف الولايات المتحدة بروسيا كقطب مستقل في عالم متعدد الاقطاب واحترام مصالحها، بما في ذلك حقها في تحقيق مشاريعها الخاصة للتكامل الاقتصادي والعسكري والأمني على المستوى الاقليمي، وبمشاركتها على قدم المساواة في إدارة العالم. ويتضمن هذا السيناريو أيضا الحفاظ على القرم في إطار الاتحاد الروسي والمشاركة في عملية صياغة دولة أوكرانية لا تمثل مخفراً أمامياً للغرب في مواجهة روسيا عبر منع اندماج أوكرانيا في المؤسسات الغربية العسكرية والأمنية والاقتصادية، ومن ثم ضمان وضعية الدولة «المحايدة» لها.

ويرى قسم من الخبراء الروس أن تحقق مثل هذا السيناريو سيعني اكتمال تحول النظام الدولي الى نظام متعدد الأقطاب، وسيضع قواعد جديدة للعلاقات الروسية الأميركية، وسيصبح مثالاً للدول الكبيرة الاخرى التي لا توافق على زعامة الولايات المتحدة للعالم. وفي هذه الحالة، ستضطر واشنطن إلى الاعتراف بحق مراكز القوة الجديدة الصاعدة في نوع من «الهيمنة» الاقليمية. وهذا سيخفف جزئيا من المشاكل والتناقضات بين واشنطن وتلك المراكز الصاعدة، وسيسمح، في نهاية المطاف، بإرساء شراكة ما على أساس التكافؤ.

ويرى البعض في روسيا أن تحقق هذا «السيناريو الروسي» يُعد من قبيل الأحلام أو الإغراق في الخيال، لأن واشنطن تتحرك فعليا في اتجاه معاكس له عبر العمل على إبقاء زعامتها وهيمنتها، ورص صفوف حلفائها في مواجهة روسيا. فمن الصعب تماما ان تتكيف الولايات المتحدة مع مبدأ التعددية القطبية لتناقضه مع تاريخها وايديولوجيتها. كما أنه من الصعب أيضا إقرارها بهذه التعددية بعد مرور أكثر من عشرين سنة على اعتقادها بـ«نهاية التاريخ». ولذلك، نرى تيارا من الخبراء الروس في العلاقات الدولية يعتقد أن الخروج من المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا، «الرأسماليتين»، غير ممكن من دون استسلام أحد الطرفين لأهداف الطرف الآخر. وفي هذا، تحديداً، يتجلى مأزق المواجهة الحالية بين البلدين وطريقة الخروج منها.

 

المصدر | السفير

  كلمات مفتاحية

روسيا الصين السياسة الحرب الباردة

هل ستشرق الشمس من موسكو؟

بوتين يعزو هبوط أسعار النفط جزئيا إلى ألاعيب سياسية

روسيا وإيران واختبار "مكانة القوة"

روسيا تهون من تعاونها مع أمريكا ضد تنظيم «الدولة الاسلامية»

اتفاق أمريكا وروسيا على تبادل المعلومات عن الدولة الإسلامية كعدو مشترك

بوتين وسياسات واشنطن الخاطئة

الولايات المتحدة ومواجهة الصعود الصيني الروسي

عــام قَــلب أمــن أوروبـا

بوتين يُعدّل عقيدة الجيش: أبرز الأخطار .. «حلف شمال الأطلسي» والإرهاب