عن العلاقات الروسية ــ الصينية: تاريخ ثقيل ... وإمكانات هائلة

الأربعاء 26 نوفمبر 2014 09:11 ص

مع ملاحظة الفروق الواسعة بين البلدين من ناحية درجة تطور القوى المنتجة في المدن، إضافةً إلى عوامل تتعلق بالجغرافيا، ودور القوى الغربية والاستعمار العسكري المباشر؛ قامت الثورتان، الروسية والصينية، على أساس مشترك، هو عجز البرجوازية المحلية الهزيلة، في كلا البلدين، عن إنجاز مهمات التوحيد القومي والتصنيع- على شاكلة بلد متطور- وارتهانهما للمصالح الخارجية، ووصول الوضع السياسي إلى طريق مسدود، في ظلّ انحلال الهياكل السياسية والإدارية القائمة. وكذلك، كان الوضع الدولي حاسماً في كلا البلدين: روسيا عبر الحرب العالمية الأولى. والصين عبر الغزو الياباني والحرب العالمية الثانية. 

تعرف الصينيون على الماركسية، بنسختها الروسية، في بدايات القرن العشرين، حتى إن، ماو تسي تونغ، ورفاقه لم يعرفوا البيان الشيوعي إلا بعد عام 1921، بحسب إسحق دويتشر. لقد أوضحت الثورة الروسية الطريق الذي يجب على الاشتراكيين الصينيين اتباعه في المبادرة التاريخية، واستلام السلطة، والمباشرة بمهمات البناء الصناعي والزراعي وتحديث البلد، لكن، بسبب هيمنة القرارات السياسية التعسفية لستالين على مسار ثورة 1925-1927، والسياسات المحافظة التي اتسمت بها، هزمت تلك الثورة وتعرض كوادر الحزب الشيوعي الصيني للإبادة عام 1927، ما دفع الثورة للانتقال إلى الأرياف، ومن ثمّ خوض معركة طويلة تكللت بالنجاح عام 1949.

بعد انتصار الثورة الصينية بدأت مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، وأصبح السوفيات أوصياء على الثورة الصينية الوليدة، برغم كلّ التناقضات التي حملتها تلك الوصاية. 

إنّ المعونات الاقتصادية والإدارية والتقنية، التي قدمها الروس للصينيين، كانت معيناً لهم في اجتياز السنوات العشر الأولى، من عمر الثورة، باستقرار اجتماعي نسبي. لم تكن هناك خضّات وتوترات هائلة بين المدينة والأرياف، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي في روسيا إثر سياسات التجميع الزراعي القسرية السوفياتية. إذاً، وبحسب دويتشر أيضاً، حصلت الصين على ميزة بالغة الأهمية لم يحصل عليها الروس في بداية ثورتهم: «لم تكن الصين منعزلة ومحاصرة كلّياً كما كان وضع الاتحاد السوفياتي بعد ثورة عام 1917».

الدجيرجيموردا (الوحش الغليظ)

في إحدى رسائله الأخيرة عام 1922، حذّر لينين من «الدجيرجيموردا (الوحش البيروقراطي الشوفيني الروسي)، الذي يمكن لقراراته، ذات يوم، أن تكون لها عواقب وخيمة على مئات الملايين من الآسيويين الذين سوف ينتقلون عاجلاً إلى الصف الأول من مسرح التاريخ»، وهذا ما حدث، بالتوقف المفاجئ للمعونات السوفياتية للصين، مطلع الستينيات، بقرار من خروتشوف، الأمين العام. ولمّا كانت، تلك المعونات، ذات أهمية حاسمة في مشاريع التنمية في مختلف المجالات، فقد كان لتوقفها نتائج كارثية، تمثّلت في إعاقة عملية التصنيع لعدة سنوات، إضافة لمشاكل أكبر، تتعلق بالبطالة، وأزمات حادة في الريف الصيني.

وإن كنا لسنا بصدد بحث الأسباب العميقة لتلك القطيعة، يمكننا القول، باختصار، إنّ السياسات المحافظة التي ورثها خلفاء ستالين تجاه الوضع الدولي، ورغبتهم بالمحافظة على الأوضاع كما هي، كانتا الأساس الذي سمح لعدة حوادث متراكمة بتفجير التناقضات التي لم تظهر بين البلدين حتى ذلك التاريخ. لقد وقعت القطيعة الكاملة، ووصلت الأمور إلى تناقضات على صعيد السياسة الدولية، واشتباكات حدودية بين البلدين، بلغت حدّ التهديد بحرب شاملة.

إنّ ما جرى هو إضاعة فرصة لا يمنحها التاريخ كثيراً. فرصة تلاقي بلدين، بإمكانات هائلة، ونظامين سياسيين متشابهين، وأرضية اجتماعية متشابهة تصدّت لمهمات التنمية. فرصة بناء تكامل استراتيجي، وفضاء اشتراكي على صعيد واسع من العالم، كان سيجعل الصعوبات التي عاناها البلدان، كلّ على حدة، ممكنة التجاوز، وليبدّل المعادلات، والتوازنات الدولية، التي بدأت تختلّ ضدّ مصلحة المعسكر الاشتراكي منذ عام 1967.

فرصة جديدة

من اللافت أنه، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات، بدأ الروس يستشعرون أهمية وصل ما انقطع مع الصين، ولو بطريقة براغماتية، فروسيا الضعيفة المنهوبة، في أول عهد يلتسين، باشرت ترميم العلاقات الثنائية، حيث عُقدت تسوية تدريجية للخلافات الحدودية منذ عام 1991، وصولاً إلى تسوية شاملة في مطلع الألفية الثالثة، كما أن الصّين أصبحت «الزبون الأكبر» الذي أنقذ الصناعات العسكرية الروسية منذ التسعينيات، والتبادل التجاري أخذ منحىً تصاعدياً أيضاً، وإن كانت البداية خجولة.

الصّين التي كانت تمرّ بفترة نموّ سريعة، منذ إصلاحات دنغ عام 1979، وجدت في روسيا التسعينيات، المريضة، إمكانية جديدة للتعاون. روسيا التي تخفّفت من العبء الأيديولوجي، وإرث الماضي، وجدت في الجار الصيني متنفّساً يمكن أن تستفيد منه في ظلّ ظروف أنهكتها.

بعد الأزمة المالية عام 2008، واستفادة روسيا من المضاربات المالية، وارتفاع الأسعار في قطاع النفط، وتحييد الصين نفسها نسبياً عن تأثيرات الأزمة، بدأت اللقاءات بين البلدين تشهد زخماً أكبر من السابق، وأخذ التبادل التجاري بالارتفاع.

هل هي مقدمة لكسر دائرة الاحتكار؟

كان لا بد أن تأخذ أحداث أوكرانيا مداها. الانقلاب، الذي أطاح الرئيس الموالي لموسكو في كييف، وما تبعه من ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، واشتعال الحرب الأهلية في أوكرانيا، إضافة إلى تصادم مصالح الغرب مع روسيا، وإلى جانبها الصين، في أكثر من نقطة من العالم، من بينها الأزمة السورية والصراع حول خطوط إمداد الغاز، والعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، أحداث بدت كأنها تدفع الروس إلى المزيد من التعاون مع الجانب الصيني، كما أن ظهور نقاط توتر بين الصين والغرب، وبين الصين وبعض جيرانها، المدعومين من الغرب، مثل فيتنام والفيليبين، كان من روافع الاتفاق الذي كلل مسيرة التعاون بين البلدين، وهو اتفاق شمل مدّ خطّ أنابيب الغاز من شرقي سيبيريا إلى شمال الصين. حزمة الاتفاقيات هذه، الجديدة منها والمعاد تفعيلها، تحمل الكثير من الدلالات.

تتميّز الحقبة التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي، بأحادية قطبية وسيطرة مطلقة للغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. ومع التقدم التكنولوجي المتسارع، في مجالات الاتصالات والفضاء وتقنيات الصناعة وتكنولوجيا المعلومات، وتركز الأسواق المالية فيها، والتحكم في عمليات التمويل والمصارف والبورصات وحركة الأموال، على صعيد العالم كلّه، أصبح الممر الإجباري، لسائر العمليات الاقتصادية والمالية، يمرّ عبر الولايات المتحدة، والمؤسسات التي تهيمن عليها في مختلف المجالات. استندت الصين في نموّها السريع، منذ الثمانينات، إلى علاقة شديدة التعقيد مع الولايات المتحدة والغرب؛ نستطيع أن نجد، نتيجة الاستثمار المكثف للغرب في الصين، والعلاقات التجارية المتشابكة، ما يقارب 1،3 تريليون دولار قيمة سندات الدين الأميركية التي تمتلكها الصين.

الصين لم تتبع طريق فك الارتباط، بل دخلت اللعبة الاقتصادية وفق قواعد الطرف الأقوى (الغرب).

اليوم، وبعد تغير جزئي في معطيات السياسة الدولية، على نحو بدأ يعرقل السيطرة المطلقة للغرب، سوف نجد تلك البلدان، التي نجت من حقبة الثمانينيات والتسعينيات وحافظت على وحدتها القومية وأنشأت صناعة فيها قدر مهم من الاستقلال، تحاول التحرّك في منافذ جديدة. من هنا أهمية التقارب الروسي الصيني. خصوصاً إذا لاحظنا طبيعة الاتفاقات التي جمعت البلدين أخيراً، وعلى رأسها اتفاقية توريد الغاز، التي ليست سوى العنوان العريض لهذا التقارب.

عبر هذه الاتفاقية ستتخفّف الصين من الاعتماد على الفحم الحجري، المكلف بيئياً، وقد تتجاوز هذه الاتفاقية، إذا ما وسّعت مستقبلاً، تلك الموقّعة بين الاتحاد السوفياتي والغرب، في الثمانينيات من القرن الماضي، بالنظر إلى مستقبل النمو في الصين، وفي آسيا عموماً.

كذلك وقّع الصينيون اتفاقاً مع شركة (روسنفت) لإنشاء محطة تكرير ضخمة في (تيانجين)، تكون الشركة الروسية هي المورد الوحيد لها، مع العمل على تجاوز الحاجة إلى التكنولوجيا الغربية في الاستخراج والتكرير ومدّ الأنابيب، في ظلّ العقوبات الغربية على روسيا، التي تفرض قيوداً على تعامل الشركات الغربية مع روسيا.

في محاولة للتخفيف من الاحتكار الغربي لتكنولوجيا

المعلومات، تأتي الدولتان في المقدمة من حيث عمليات اختراق شبكة الانترنت، وسرقة المعلومات، والقرصنة، كما أن هناك محاولة لتجاوز النظام الأميركي الطاغي في تحديد المواقع (GPRS) والاستغناء عنه بنظام بديل، إضافة إلى التعاون في مجالات مثل معدات الفضاء، والتكنولوجيا العسكرية المتقدّمة، كاتفاقية توريد منظومة الصواريخ الروسية الأحدث (اس400) إلى الصين. يأتي هذا مع العمل على تطوير سكك الحديد، والبنية التحتية للمواصلات في المناطق الحدودية بين البلدين. أمّا في مجال الطيران المدني، الذي تبتلعه شركتان على صعيد العالم، (بوينغ وإيرباص) فقد جرى الاتفاق على تأسيس مشروع، يمكنه أن يحتلّ موقعا في السوق العالمية، لإنتاج الطائرات المدنية، حيث سيجري خطف حصّة من الشركتين الغربيتين، ويبدأ كسر حلقة الاحتكار الجهنمية في هذا المجال. 

إذاً، نحن لا نتحدث عن مجرد اتفاقية لتوريد الغاز. إنه مشروع تنموي متكامل، سيكون له أثر كبير على المناطق الشمالية في الصين وجنوب شرقي روسيا، وسيمنح الدولتين هامشاً متزايداً في الحركة الاقتصادية، والتوجّه أكثر نحو الاستقلال في التكنولوجيا والطاقة والتمويل، لكن الطريق لا يزال طويلاَ جداً. إنّها فرصة جديدة من التعاون بين البلدين، تحاكي الفرصة التي أُضيعت في نهاية الخمسينيات، مع اختلاف المعطيات والأنظمة السياسية والشرط الدّولي. 

في ظلّ مسعى الصين إلى بناء اقتصاد قوي، وإلى ردم الهوة في التطور التقني والاقتصادي بينها وبين الغرب، وفي ظل سعيها لتحسين شروط العيش لمواطنيها، الذين يزيدون على المليار والثلاثمئة مليون نسمة، فإنّ مساعيها تتناقض بالضرورة مع مصالح الغرب. إنّ شكل وبنية الاقتصاد الصيني، الذي تسيطر فيه رأسمالية الدولة الاشتراكية -بالرغم من الحجم الهائل للاستثمارات الأجنبية ورأس المال الخاص- هما أمر مستمد من أسس التنمية في الدولة الصينية الحديثة، التي أشرفت الدولة الاشتراكية فيه على كل جوانب التخطيط والبناء والتراكم الذي أسّس البنية الصناعية.

وهي تشترك بذلك مع روسيا، التي تحمل الأساس التاريخي نفسه في التنمية وبناء الدولة. إنّ مجرّد محافظة هذه الدول على وجودها القومي ومصالحها الوطنية، في ظلّ الهجمة الأميركية على العالم، يفتح على سيناريوهات جديدة، ويعطي الأمل لشعوب العالم في إيجاد بديل عن سيطرة القطب الأميركي، ويمنح زخماً للحركات الاجتماعية، التي قد تنشأ كردّ فعل مقاوم لهذه السيطرة، وسنداً للدول التي تحاول التفلت من شبكة الهيمنة، مثل محاولة إيران، بعد ثورتها الشعبية، بناء تنمية مستقلة، حيث وضعتها مساعيها في مواجهة شرسة مع الغرب.

إنّ عالماً تسيطر فيه الولايات المتحدة الأميركية يبدو حتى الآن ظالماً، لا يطاق، وإنّ عالماً متعدّد الأقطاب قد يفتح بارقة للأمل، لذا يجب على شعوب العالم النّامي أن تلحظ جيداً التقارب الروسي الصيني. 

نبيل إسماعيل باحث سوري

 

المصدر | الأخبار اللبنانية

  كلمات مفتاحية

الصين روسيا الولايات المتحدة الأحادية القطبية فك الارتباط

الولايات المتحدة ومواجهة الصعود الصيني الروسي

بوتين وسياسات واشنطن الخاطئة

الصين تكشف عن طائرة شبح مقاتلة جديدة خلال معرض عسكري

عشية زيارة أوباما لآسيا .. تحالفات أمريكا القديمة تواجه ضغوط النفوذ الصيني

أوباما و«داعش» والصين والسعودية من منظار جيوسياسي

«أوباما» ينتقد بشدة خطط الصين لفرض قواعد جديدة على شركات التكنولوجيا الأمريكية