إعداد تقارير ”الانتفاضة الخفية في السعودية“

السبت 13 ديسمبر 2014 01:12 ص

«يقبع كل شخص يطالب بحقوقه خلف القضبان»

يمكن لهذا البيان المقتضب أن يصف الظروف المحيطة بأي عدد من النضالات الديمقراطية التي تجري الآن في جميع أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ومع ذلك؛ فإن هذه الشكاية تأتي من ناشط في المنطقة الشرقية السعودية التي تخضع لحراسة مُشددة؛ حيث تستمر أكبر انتفاضة ضد الدولة في تاريخها على مدى ثلاث سنوات في ظل تعتيم إعلامي كامل من الدخل والخارج. ويتابع ذلك الناشط «يوجد أكبر حقل نفط في العالم في القطيف، ولكن ماذا نجد؟ لا شيء سوى منازل آيلة للسقوط وفقر وجوع وتهميش».

وتطفو الاضطرابات في المنطقة الغنية بالنفط في القطيف التي شهدت مقتل عشرين مدنيًا على الأقل واثنين من ضباط الشرطة منذ عام 2011م على السطح الآن بشكل أكثر وضوحًا بفضل جهود الصحفية السعودية «صفا الأحمد».

على الرغم من الصعوبات الهائلة في الدولة البوليسية التي تجعل الصحافة هناك شبه مستحيل (البيئة الإعلامية في المملكة العربية السعودية مُصنّفة من خلال منظمات مثل «فريدوم هاوس» من بين الدول الأكثر قمعًا في العالم العربي)، فإن الصحفية الحاصلة على عدد من الجوائز «صفا الأحمد» قامت بعدة زيارات إلى منطقة القطيف على مدى عامين لتوثيق الأحداث هناك لــ«بي بي سي» باللغة العربية. الفيلم الذي تم إنتاجه تحت عنوان «الانتفاضة السرية في السعودية» هو دليل على قوة حركة أُهملت إلى حد كبير من قبل الصحافة الدولية. وانتقدت «صفا الأحمد» - التي وُلدت وترعرت في السعودية وحاليًا في إسطنبول – التقارير التي تتحدث عن السعودية حتى في الإعلام الغربي، مُشيرة إنها «سيئة ولا تنقل الواقع. هناك صورة نمطية قد تكون مقبولة نوعًا ما، لكنها تؤكد ببساطة أنها لا تنسجم مع ما يحدث».

وسائل إعلام عالمية متلوّنة

ويصور التصدي لهذه القصة - فيلم «صفا» - التي كانت أولى فقرات مهرجان السينما الذي حمل اسم «عن قُرب» في لندن خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي الصراع الدموي البالغ من أجل الحقوق؛ والذي يتردد صدى أمثاله في بلدان أخرى في المنطقة.

وتُعدّ المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية موطنًا لغالبية الشيعة في البلاد؛ والذين يشكلون حوالي 15% من السكان. ومثلهم مثل نظرائهم في البحرين يدّعون أنهم أقلية يتعرضون للتمييز الطائفي المتعمّد من قبل الأسرة الحاكمة السنية.

وليست الشكاوى الكثيرة لتلك الطائفة  - والتي تتراوح بين الحرمان من الحقوق الإنسانية والمدنية الأساسية إلى السجن السياسي والإقصاء الممنهج من الثروات والمؤسسات النفطية في البلاد – بجديدة، (فكما جاء في أحد المقابلات التي أجرتها «صفا»: «يتمّ تهميشنا في القطيف منذ مائة عام على الرغم من أنها واحدة من أغنى المناطق».

لكن يبدوا أن سكان المنطقة قد أعطتهم الأحداث الموازية من الانتفاضات العربية الأخرى منذ عام 2011م حبّة الشجاعة فخرجوا إلى الشوارع بأعداد لم تسبق. وتتضح مطالبهم من أجل الإصلاح بقوة في فيلم «صفا الأحمد»، والذي يضم مقابلات مُسجّلة لأشخاص اشترطوا عدم الكشف عن هويتهم مع لقطات أرشيفية من أكثر من ثلاث سنوات من الاحتجاج. إن المحاولات الرسمية لتصوير الاضطرابات على أنها ليست سوى مشكلة محدودة يقوضها مشاهد عنف الشرطة الصريحة والقتل جنبًا إلى جنب مع تظاهرات في الشوارع تضم الآلاف تحمل هتافات مألوفة ربما لا تحمل صراحة مطالب إسقاط النظام.

وعلى من الطبيعة غير المسبوقة للتحقيق إلا إن مجرد إذاعة القصة هو نضال في حد ذاته بحسب «صفا» التي كانت قد بدأت البحث وإعداد القصة منذ أوائل عام 2011م من خلال سلسلة من التقارير المميزة لصحيفة «لندن ريفيو أوف بوكس» مشيرة: «لا أحد يريد أن يعلن تلك المطالب للوهلة الأولى»، وفي أعقاب مقتل أربعة متظاهرين في القطيف خلال تظاهرات في نوفمبر 2011م بدأت محاولاتها للتواصل مع مجموعة من الإذاعات العالمية والمنافذ الصحفية.

وأوضحت «لم يستجب ولا حتى شخص واحد. بدأتُ أتساءل مندهشة: هل هذا فعلاً من الممكن أن يحدث؟ الناس في الشوارع يهتفون: «الموت لآل سعود» في حدث تاريخي مهم ولا أحد يعيره انتباهًا؟! يبدوا أن ما كان حدث لم يرقَ إلى مستوى أن يصبح مجرد إشارة على رادارات وسائل الإعلام الدولية».

وكما أشارت «صفا» فإن عدم الاهتمام بالشكل اللائق بالقصة عزز من إحساسها بالحيرة في أهواء التقارير الأجنبية. وأضافت: «ضيق أفق وسائل الإعلام هو أمر مقلق للغاية. ينتابني فضول قوي لمعرفة لماذا يرى المحررون إلى ثلاث سنوات من الاحتجاجات وأعمال القتل - وهي الأكبر في تاريخ المملكة العربية السعودية – ولا ينشرون شيئًا بينما تُفردُ صفحات للحديث المسهب عن ما يحدث في العراق وسوريا. أنا أعتبر ذلك إساءة للجمهور وكذلك للناس في المنطقة نفسها».

ورغم ذلك؛ فقد أصرت «صفا» على تحدي أنماط التقارير المعمول بها من خلال القيام بتصوير متعدد الأوجه من مسقط رأسها. تآمر وسائل الإعلام الدولية مع المملكة العربية السعودية - كما وصفته الصحفية المقيمة حاليًا في إسطنبول – يجعل تركيزها دائمًا ينصب على المعاملة التي تجيزها الدولة للمرأة. ومع استثناءات قليلة؛ فإن إعداد التقارير في السنوات الأخيرة نادرًا ما خرج عن إطار الحملات المتعلقة بقيادة المرأة للسيارة لاستكشاف مناطق أخرى لحقوق الإنسان أو الانتهاكات السياسية. وشددت «صفا» على أهمية النضال النسائي للحصول على حقوقهن، لكنها – كما قالت – مصممة على عدم حصر نفسها في خانة ضيقة طرقها كل الصحفيين.

«شعرت أني بحاجة لسرد تلك القصة"؛ هكذا قالت «صفا» مضيفة: «لم أُرد تناول قضايا النساء التي اعتادت وسائل الإعلام الاهتمام بها، فعندما تدخل إلى المملكة العربية السعودية تجد هناك مشكلات رئيسية تتعلق بحقوق الإنسان. فقط أردت التعامل مع القضايا الجوهرية والأساسية. ما هي طبيعة العلاقة بين الشعب وحكومته، وما هي الحقوق المفترض على الشعب المطالبة بها لإحداث تغيير»؟

الشعب ضد الدولة

تطلبت الإجابات على تلك الأسئلة من «صفا» سعيًا في مناطق محفوفة بالمخاطر. ولمدة تجاوزت عام؛ وفي ظل رفض السلطات السعودية طلبات من «بي بي سي» للتعليق على القصة أو التعاون بشأنها للوصول إلى الحقيقة الكاملة كانت «صفا» تباشر تحقيقاتها في الخفاء. (وبصفتها حاملة للجنسية السعودية أصبحت الفتاة قادرة على دخول البلاد بحرية، لكن ضبْطها وهي تصور فيلمًا في المنطقة قد يشكل عواقب وخيمة عليها وعلى مصادرها). وكانت محاورات إنتاج الفيلم سببًا في اقتراب الفتاة التي تحاول التخفي عن الأنظار من عدد من قيادات التظاهر في المحافظة مع العلم أن معظمهم على قائمة المطلوبين رسميًا لدى الحكومة السعودية. وفي الوقت الذي وافق فيه البعض على التحدث شريطة عدم ذكر أسمائهم، ظهر آخرون في التسجيل وهم يزدرون السلطات.

وكان من بين هؤلاء مرسي الربيع - زعيم ناشط شاب اسمه بين 23 مطلوب للحكومة. والتقت «صفا» به بعد ساعات من مداهمة الشرطة لمنزله في أواخر عام 2012م وقد نجا بأعجوبة من الإصابة. وتحدث إلى «صفا» قائلاً: «لقد بدا جليًا أنهم يريدون قتلي. ولكن نحن نسير على الطريق الصحيح. نحن نطالب بحقوقنا». وفي غضون أشهر؛ وتحديدًا في يونيو/حزيران 2013م لقي الربيع حتفه إثر عدة طلقات نارية خلال محاولة اعتقال قوات الأمن له.

والتقت أيضًا من بين ضحايا عنف الدولة في المملكة العربية السعودية عائلة رجل الدين الشيعي البارز «نمر باقر النمر» الذي حُكم عليه مؤخرًا بالإعدام بتهمة التحريض على الفتنة. ومنذ عام 2011م وتناشد السلطات السعودية قادة رجال الدين الشيعة في البلاد للمساعدة في وقف الاحتجاجات، ولكن ظل «النمر» واحدًا من أشد منتقدي النظام. (وظهر النمر في خطبة عام 2012م وهو ينتقد أسر حاكمة في المنطقة ويتمنى سقوطها: «نأمل أن يسقط آل سعود وآل خليفة والأسد»). وقد ذاعت حملات «النمر» بشأن المساواة المدنية والإدراج الاجتماعي والسياسي وحقوق المرأة والاعتقال السياسي، إلا إن تراجعه مؤخرًا بشكل ملحوظ عن انتقاد العنف يشير إلى انقسامات داخل الانتفاضة التي تحولت تدريجيًا إلى مسار أكثر تطرفًا.

ووثقّت «صفا» بنفسها  تسللاً تدريجيًا لأساليب أكثر قوة إلى داخل ترسانة المحتجين بدءًا من زجاجات المولوتوف وحتى المسدسات اليدوية التي خرجت كرد فعل على التصعيد الوحشي من السلطات السعودية؛ وهو الأمر الذي أشار إليه عدد من الناشطين. وتقول «صفا»: «كانت هناك لحظة أمل حقيقية في البداية أن هذا الاحتجاج السلمي قد يكون في الواقع وسيلة لكسب الإصلاح. لكن كما هو الحال في انتفاضات أخرى فلم يترك رد الفعل الحكومي مجالاً كافيًا للناس الذين يؤمنون باللاعنف للبحث عن تكتيكات أخرى. من السهل دومًا أن تلجأ للعنف قبل أن تفكر في عدم العنف».

أعداء النظام

حالات العنف الأخيرة التي لجأت إليها المعارضة الأخيرة كانت كثيرة لدرجة أنها أضفت مصداقية على الرواية المتوقعة من قبل السلطات السعودية بأنها حركة متطرفة مدعومة طائفيًا من إيران. وكما أشارت «صفا» فقد ساعدت الحكومة في خلق العدو الذي تريد. كما استقطب العنف من قبل المتظاهرين المجتمعات داخل القطيف نفسها. وفي الوقت الذي عانى فيه الكثير من آثار القمع الوحشية فلم يكن هناك سوى قليل هم الذين يشعرون بنتيجة مرجوة من وعود الحملة بشأن تحقق الإصلاح.

«لقد كان من الشجاعة حقًا نزول الناس للشوارع والطرقات بدون حتى أن يغطوا وجوههم وجرأتهم على المطالبة بحقوقهم بكل وضوح»؛ هكذا أشادت «صفا» مستطردة: «الكثير من الناس الآن لا يتركون أطفالهم يغادرون المنزل. تلك كانت أحد الأشياء المُحزنة؛ فقد كان الناس يحاولون السير بسلمية لكن الأمر تصاعد بدرجة خرجت عن السيطرة تمامًا. حكومتنا لا تريد الاستماع لنا وفهمنا».

ورفض مسئولون سعوديون مرارًا وتكرارًا التعامل مع قصة «صفا»، كما رفضوا التعليق على الاحتجاجات وحالوا دون الوصول إلى مصادر من الشرطة وقوات الأمن. ومنذ عرض الفيلم في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، فقد قيل إنهم اتصلوا بــ«بي بي سي» للتعبير عن استيائهم البالغ إزاء توصيف الأحداث بتلك الصورة. وقد ظهرت هذه الحدة في مصادر وسائل الإعلام المحلية والتي تبارت في التنديد بالفيلم، ووصفه بأنه دعاية طائفية، وأن المتظاهرين ما هم إلا حفنة من الإرهابيين يدعهم الخارج.

واتهم منتقدون آخرون «صفا» بالتشويه الصحفي وعدم التوازن، مُدعين أنها تجاهلت العنف الذي يقترفه المتظاهرون ضد الشرطة، فضلاً عن محاولاتها تصوير هؤلاء المتظاهرين غير السلميين على أنهم أبطال.

وتقول «صفا» إنها شعرت شخصيًا بقوة الدولة. كما أشارت إلى تلقيها كمًا من الانتقادات عبر الإنترنت من قبل مؤيدين للنظام غير معروفين، وكما هو متوقع فقد طلبت منها السلطات السعودية عدم العودة إلى بلدها وإلا فالاعتقال بانتظارها. لقد كان هذا ثمنًا باهظًا، ولكن المخاطر كانت محسوبة بعناية.

وفيما يبدوا أنه معارضة لوجهات النظر الرسمية في المملكة فقد خرج العديد من الأصوات الإيجابية داخل البلاد وخارجها التي تشيد بدور «صفا الأحمد» في فضح ما يرونه من ظلم ملموس ومستمر. وعلى الرغم من أنها تُصر على أن القصة كان من الممكن أن تكون أقوى في حالة موافقة السلطات السعودية على طلبات المقابلة، إلا إنها تصف عملها بمثابة اللحظة المحورية في حياتها المهنية.

وتضيف «كان هذا تتويجًا لتجاربي كصحفية. أردت أن أفهم بلدي بشكل أفضل من خلال الاقتراب من السكان المحليين والاستماع إليهم ومن ثمّ نقل نضالهم إلى الخارج. لقد كان قرارً شخصيًا كبيرًا، رغم أني كنت أدرك أني ذاهبة لتحمل المخاطر، إلا أني كنت موقنة بأن الأمر كان يستحق كل هذا العناء».

ولم يتسن الحصول على تعليقات بشأن الفيلم من ممثلين عن الحكومة السعودية أو حتى استضافتهم في المملكة المتحدة بخصوص الموضوع ذاته.

المصدر | زوي هولمان، ميدل إيست آي

  كلمات مفتاحية

السعودية الصحافة الإعلام القمع نمر النمر آل سعود

إجمالي الموقوفين بالسجون السعودية يتجاوز 3200 موقوفا

إقالة وزير الإعلام السعودي… وغموض حول أسبابها

وزير الإعلام السعودي (المقال) قرر إغلاق قناة «وصال» على خلفية «حادثة الأحساء»

«مجتهد» مغرد السعودية الغامض الذي يقوّض النظام القمعي

الانتفاضة الخفية في السعودية