فيلم «منبوذ».. ساعي البريد لا يطرق أبوابنا بالرسالة مرتين!

الجمعة 22 ديسمبر 2017 10:12 ص

فيلم اليوم «منبوذ أو Cast Away» للمخرج الأمريكي «روبرت زيمكيز» (إنتاج 2010) درس سينمائي بالغ الجودة قدمه فريق عمل قليل العدد، بتكاليف منخفضة قدر الإمكان اعتمادًا على قصة تم التطرق إلى أصلها منذ نحو 280 عامًا، ورغم كل ذلك حقق الفيلم أرباحًا خيالية ومزيدًا من الشهرة لبطله «توم هانكس» في وقتها، وهو الرصيد الذي سحب الأخير منه كثيرًا فيما بعد في أفلام تناولنا اثنين منهما هنا «مجسم من أجل الملك» و«ملائكة وشياطين»!

أبرز الدلالات التي يقود إليها فيلم اليوم أن الإنسانية محيط غزير المياه مهما اغترفنا أو أخذنا منه لا ينضب؛ وأن الطريق لكي يكون أي مواطن معاصر إنسانًا لا يحتاج إلى مال ولا امتلاك أشياء ذات ماركات تجارية مبالغ في سعرها كما نبهنا إلى هذا من قبل فيلم «نادي القتال».

وكذلك لكي يولد فيلم سينمائي ناجح فإن الأمر لا يحتاج إلى كثير بهارات وتوابل من مشاهد جنسية مبالغ فيه كما نبهنا إلى هذا هنا في الفيلم السابق التناول، مساء الأربعاء، «ذئب وول استريت».

فيلم «منبوذ» يتناول من أبسط الطرق وأقربها إلى القلب والعقل جملة واحدة بالغة العمق، وتطبيقها على الشاشة لم يحتج إلى بهرجة وكثير معدات وممثلين، بل للقدر المعقول منهما ليقول الفيلم منذ أول مشاهده حتى النهاية: كن فطريًا بسيطًا عذبًا مثل مياه المحيط، رائقًا في محبتك الآخرين مثل غابة ساكنة هادئة قبيل الفجر، دافئًا في بحثك عن ضرورات الحياة مثل السماء بعد العاصفة، تجد أفضل ما في الحياة ومن قبل نفسك.

لو علمتُ الحقيقة لما جئتُ

الفيلم في أصل قصته مُستلهم عن الرواية الإنجليزية التي يرى كثيرون أنها الأفضل في تاريخ الأدب البريطاني «روبنسون كروزو»، التي كتبها السياسي «دانيال ديقو» ونشرتْ عام 1719، ومن الطريف أنه كما استلهم فيلم اليوم أحداث الرواية المنشورة قبل نحو 280 عامًا،  فإن الرواية نفسها مُستلهمة من قصة حقيقية جرت وقائعها قبل أكثر من ألف عام، وهي تتناول مشرد تم العثور عليه بعد غرق سفينة كانت تحمله في جزيرة «خوان فرنانديز» في «بحر شيلي» عام 705.

 في نحو 143 دقيقة تدور أحداث فيلم «منبوذ» حيث «تشاك نولاند» أو «توم هانكس»، الموظف المثالي المسؤول عن شبكة شركة «فيديكس» لخدمات البريد عبر العالم، وفي مشاهد الفيلم الأولى ينتقل البطل لروسيا قريبًا من الكرملين وقبر «لينين» ليروي لموظفي الشركة هناك يومياته في إيصال الرسائل والطرود ولو اضطر لسرقة دراجة مشلول عند تعطل سيارة الشركة.

وفي طريق عودته بالطائرة إلى وطنه أو «ممفيس» الأمريكية يستغرقه الحديث مع صديقه «ستان» أو (نيك سيرسي) عن إصابة زوجته «ماري» بالسرطان وعدم قدرة العلاج الكيمياوي أو العلم الحديث على شفائها، لتبدأ بوادر وتباشير قصة الفيلم: فما فائدة التكنولوجيا إن لم تنقذ أحبابنا من الموت؟

وفور العودة يلتقي بطل الفيلم حبيبته «كيلي فريزر» أو «هيلن هنت» في «أعياد الشكر» ويواعدها على تحديد موعد للخطبة بعد سفره لتوصيل هدايا أعياد الميلاد إلى ماليزيا بطائرة الشركة، وفي السيارة قبيل انطلاق الطائرة تهديه «كيلي» ساعة جدها الأثرية التي مر بها فوق المحيط الهادي.

هذه المشاهد المتتالية التي لا تمثل شيئًا في عمر الفيلم تصوغ الأرضية أو العالم الحقيقي الذي عاش «نولاند» فيه حياته، وتحيا في قلبه الملايين اليوم، وتقبله بطل الفيلم رغم غربة روحه فيه(!)

بعد انطلاق الطائرة الخاصة بقليل يحدث ما لم يكن يتوقع «نولاند».. تتعرض الطائرة لانفجار وتضطر للهبوط في المحيط، وفيما يغرق العدد القليل المُسافر معه عليها ينجو بصعوبة.. ويصل سابحًا بسترة النجاة إلى جزيرة جنوب «دكوك» بالمحيط الهادي، وهناك يستميت للوصول إلى حل لأزمته بلا فائدة، يصعد الجبال ويهبط، يصرخ في الكهوف، يكتب كلمة (Help) أو مساعدة على الرمال بيده أو بالأشجار المتساقطة.

لكنه بدلًا من العثور على الحياة يلتقي بالموت في صورة قائد للطائرة؛ والبطل يحاول دفن جثته يكتشف أن القتيل عاش باسم مُزيف عبر بطاقته الشخصية، وبالتالي فإن هناك ما كان يهرب منه من جرائم دون أن يدري أن الموت ينتظره ليدفن قصته معه، ويكتب فوق مكان دفنه بحجر مدبب اسمه الحقيقي في إشارة لزيف الحياة وقدسية الموت.

ومع الأيام يُصاب «نولاند» بالاكتئاب الشديد ولكنه يتأقلم مع الواقع، ويتعلم كيفية فتح وشرب ثمار الجوز، بل إشعال النار، وصيد الأسماك، وقنص قطرات الندى وما شابهها، كما يستغل مكونات الطرود التي بقيت معه في صناعة سكين حاد، وشبكة صيد، وعما قريب سفينة عبر استغلال حذاء نسائي، وفستان، وشرائط فيديو في إشارة إلى أن الأشياء من حولنا يمكنها إسعادنا بل إنقاذنا إن أحسنا استثمارها في غير أغراضها الأساسية.

أما أغرب ما استخدمه بطل الفيلم فـ«كُرة طائرة» كانت في طرد، وقد جعلها صديقًا له، رسم وجهه بدمائه، وهو يحدثه في محاولة من «نولاند» للحفاظ على قواه العقلية، إذ بقي في الجزيرة قرابة أربعة سنوات، أما اسم الصديق فـ«ويلسون» باسم ماركة الكُرة الطائرة (ماركة أخرى بعد شركة فيديكس التي يعمل بها).

وعبر استثمار الطاقات العقلية التي تمنحنا إياه المحن يتحول البطل إلى عالم في الرياضيات لمعرفة مكانه من الكرة الأرضية، وفي الفلك لمعرفة تاريخ الأيام، وفيلسوف لمجاراة الكرة الطائرة التي لا تنطق في الكلام، وطبيب لعلاج أمراضه وقروحه واضطراره لخلع ضرسه، ومهندس في السفن المُبسطة لصناعة سفينة من لوح من الطائرة وصل للشاطئ متأخرًا جدًا حاملًا ماركة أخرى مشهورة.

وفي المحيط يصارع الأمواج والمطر والعواصف والاكتئاب حتى تضيع منه الكُرة في إشارة ذكية من صُنّاع الفيلم إلى مغادرة البطل للعالم الافتراضي الذي عاش فيه وتماهى أو ذاب معه إلى الواقع من جديد، لتجده سفينة فيما ينطق باسم محبوبته «كيلي».

وفي العالم الأمريكي الحقيقي المليء بالأشخاص والثرثرة والأحضان والطعام المطهو والاحتفالات الفخمة بمناسبة عودة بطل الفيلم وسرطان البحر مُدخنًا، لا كما اضطر لأكله نيئًا في أيامه الأولى، ولكنه كما فقد قرابة عشرين كغم من وزنه يجد «نولاند» نفسه فاقدًا الشهية لكل ما في الحياة.

فحبيبته تزوجها طبيب الأسنان الذي لم يكن يحبه «كيرس نون» أو (جيري لوفيت) بعد أن فقدت الأمل في عودته، وهو يمنعها بقسوة من الوصول إليه رغم توسلها ودموعها، فيما لا يملك «نولاند» لها شيئًا، ورغم محبتها للبقاء معه حينما يلتقيها لكنه يأمرها بالخروج من حياته والعودة لبيتها وزوجها وابنتها.

ويفكر «نولاند» في قيمة لمجهوداته السابقة للنجاة من الجزيرة، ويسأل صديقه «ستان» بعد رحيل زوجته «ماري» عن قيمة الحياة الحقيقية إذا كانا يفقدان الحبيبتين باختيار إحداهما وبدون اختيار الأخرى، أو بخيانة الذكرى والوفاة («كيري» حبيبة «نولاند» و«ماري» زوجة «ستان»)، أما جملة الفيلم المحورية برأينا فهي التي يهتف بها «نولاند» لـ«ستان»:

ـ «لو كنتُ أعرف أن العالم بهذه القسوة لما ركبتُ سفينة من الجزيرة لأعود إليكم، ولما ركبتُ سيارة لزيارة حبيبتي!».

إنه يشير بوضوح وبذكاء شديد إلى عدم وجود فائدة لجميع المنجزات الحضارية الغربية اليوم إن كانت لا تهب دفء المشاعر وراحة البال، وحسن التواصل مع الآخرين، وحينها تكون الطبيعة والغابة أكثر دفئًا ورقيًا واحتفاء واحتمالًا للإنسان!

مشهد الفيلم الختامي فيه يحمل «نولاند» الرسائل والطرود التي أنقذت حياته على الجزيرة وهدية تعويضية للذين أرسلوها من أمريكا، وحين يدق الباب لا يجد أحدًا ينتظره، فأصحاب الرسائل إما رحلوا عن مقر إقامتهم أو عن الحياة في إشارة واضحة إلى أننا لا يمكننا أن نحتفظ بمشاعرنا بعد غياب أصحابها أو عدم اكتراثهم بنا، وإلى أن ساعي البريد أيضًا لا يمكنه أن يصل بالرسالة الواحدة مرتين، فالمُرسلون للرسائل والطرود تلقوا بالفعل تعويضات من الشركة، فما حاجتهم إلى الرسائل؟!

حضارة الماركات

عاب الفيلم السقوط في فخ تقديس الحياة الأمريكية عبر الماركات التجارية التي كررها شريطه السينمائي من حيث أراد أن يُقر أنها عديمة الفائدة إذا افتقد الإنسان، وكذلك إبراز العالم كله وكأنه يحتفل بأعياد الميلاد.

لكن الموسيقى التصويرية التي تضافرت مع المؤثرات الصوتية، والكاميرا المقعرة أحيانًا التي ضخمت من الصورة في الغابة، وفي أول مشاهد الفيلم حينما كان ساعٍ مجهول لبريد يأخذ طردًا روسيًا كبيرًا في إشارة إلى أن الفيلم لن يقودنا إلى مثل هذا الطريق السهل، مع المكياج الجيد للبطل، واستثمار التصوير الليلي في غالب الفيلم لإبراز ظلمة الحياة بلا عاطفة، وأيضًا مشهد اكتشاف البطل أن بإمكانه إشعال النيران المميز، مع التناغم الشديد بين البطل ومفردات الحياة في الغابة.. كل هذا أعطى الفيلم ألقًا لا يمكن أن ينساه المُشاهد!

فيلم «منبوذ»، إضافة سينمائية، إلا قليلًا، ودرس رائق في احترام بساطة الحياة والعودة إلى الفطرة الإنسانية لراحة الوجدان واستمرار أمله في النجاة من تضييع التكنولوجيا المُبالغ فيها لحلمه النقي. 

  كلمات مفتاحية

فيلم أمريكي Cast Away منبوذ توم هانكس ماركات تجارية جزيرة أمريكا ماديات عاطفة

10 أفلام تساعدك على تجاوز الآلام في عام 2018

فيلم «عصابات نيويورك»: غابة الديمقراطية الأمريكية تقود العالم للنهاية!