جيوبوليتكال فيوتشرز: مستقبل تركيا في التنافس البحري شرقي المتوسط

الأحد 12 يناير 2020 05:02 ص

تعتبرتركيا واليونان، من أبرز القوى المتنافسة في منطقة البحر الأبيض المتوسط حيث ظلوا يتنافسون منذ فترة طويلة على الهيمنة في المنطقة. وكانت قبرص مركز ثقل هذه المنافسة، وهي جزيرة مقسمة بين سكانها اليونانيين والأتراك.

لجزيرة قبرص قيمة جيوستراتيجية هائلة، في الممرات البحرية الرئيسية لشرق البحر المتوسط، وأسواق الطاقة الإقليمية وطرق التجارة. وتتيح السيطرة على قبرص لأي بلد الوصول إلى احتياطيات الغاز الطبيعي الثمينة للجزيرة وحقوق التنقيب الاستكشافية، مما يساعدها على إبراز نفسها كقوة مهيمنة لشرق المتوسط.

لهذا السبب، سارعت تركيا واليونان للدفاع عن مطالبهما البحرية في المنطقة. لقد فعلوا ذلك من خلال استخدام مفهومين متنافسين يحاولان إحياء ماضيهما الإمبراطوري: "الوطن الأزرق"، وهي فكرة ترجع إلى أيام مجد الإمبراطورية العثمانية، لتبرير توسيع نطاق وصولها إلى البحر المتوسط ؛ وفكرة "ميغالي"، التي تعني إعادة تأسيس اليونان للمعالم القديمة للإمبراطورية البيزنطية. هذه المفاهيم ليست مجرد خطاب. إنها جزء من واحدة من أكثر المنافسات الجيوسياسية تعقيدًا وتشابكًا اليوم.

لكن ديناميات شرق البحر المتوسط معقدة أيضًا بسبب عوامل أخرى. لكل من روسيا وسوريا وإيران وليبيا مصالح هناك. وقد أدت المنافسة المتزايدة في المنطقة إلى زيادة جنون العظمة بين القوى المتوسطية على الممرات البحرية والملاحة وموارد الطاقة. وكانت النتيجة النهائية هي الاندفاع لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة (بغض النظر عن المعايير القانونية)، وتشكيل تحالفات أكثر تشدداً، وتصاعد الأزمة في ليبيا، وخطر المواجهة العسكرية الناشئة.

تعتبر آخر مرة كان فيها شرق البحر الأبيض المتوسط تحت هذه الضغوط في عام 1967، عندما شكل الاتحاد السوفييتي سرب المتوسط الخامس، مما تسبب في تصاعد التوترات بين السوفييت وأعضاء الناتو. ومع هذه التحولات الجيوسياسية الهامة الناشئة في المنطقة، من الضروري تقييم المشهد البحري: اللاعبون المشاركون، قدراتهم، قيودهم، والأهم من ذلك، نواياهم.

قوة بحرية ناشئة

مع تكثيف المنافسة على موارد الغاز البحري، وجدت تركيا أنه من الضروري بشكل متزايد تعزيز قدراتها البحرية. تعتبر البحرية التركية واحدة من أقوى 4 قوى بحرية في شرق البحر المتوسط. (لليونان وإسرائيل ومصر قوات بحرية أخرى مهيمنة في المنطقة، وللأسطول السادس الأمريكي والقوة البحرية الروسية للبحر المتوسط أيضًا وجود قيادي).

لكن على مدار العقدين الماضيين، عملت تركيا لتوسيع قدراتها البحرية، لا سيما منذ بدء التوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط، مما يشير إلى أجندة بحرية تركية طموحة بشكل متزايد في السنوات القادمة.

خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين، لم تكن التنمية البحرية أولوية بالنسبة لتركيا. وقد أدت السياسة الخارجية والداخلية لـ"مصطفى كمال أتاتورك" وخلفائه، بالإضافة إلى انضمام تركيا إلى الناتو، إلى استراتيجية بحرية أكثر محدودية. لم تشعر أنقرة بالحاجة إلى تعزيز قدراتها البحرية بما يتجاوز قدرتها على الدفاع عن المضائق التركية وبحر مرمرة وبحر إيجه.

كان أحد مبادئ "أتاتورك" الرئيسية "سلام في الوطن، سلام في العالم"، وهو شعار انعزالي سمح لأنقرة بالتركيز على إصلاحات البنية التحتية. حاولت الحكومة الحالية تغيير هذا الأمر، وتعزيز القدرات البحرية للبلاد مع رواية عثمانية جديدة مصاحبة يقودها مفهوم "الوطن الأزرق"، في محاولة لإحياء ما تعتقد أنه مكان تركيا الصحيح كقوة بحرية رئيسية في المنطقة.

ومع ذلك، لا تزال الجغرافيا تشكل عائقًا رئيسيًا في تطورها البحري. الخط الساحلي التركي طويل، ووصول البلاد إلى البحر المتوسط الأوسع مقيد بسلسلة من الجزر اليونانية، بعضها يقع على بعد أقل من 45 ميلاً (72 كيلومتراً) من الأراضي التركية.

وتجعل مساحة التنفس المحدودة بين تركيا واليونان من الصعب على تركيا التركيز على القدرات البحرية التقليدية، خاصة وأن واجبها الأساسي لا يزال هو الدفاع عن مياهها الساحلية. لذلك تم توجيه البحرية التركية في الغالب نحو الدفاع الساحلي مع مجموعة ضيقة من القدرات التشغيلية.

ولا يزال لتركيا مصلحة في دفع منطقتها العازلة إلى أقصى شرق البحر المتوسط. منذ عام 2014، استخدمت تركيا دبلوماسية الزوارق الحربية لحماية أنشطتها عبر شرق البحر المتوسط، وكذلك طرق التجارة البحرية (تمارس تركيا 87% من تجارتها عبر موانئها).

في الواقع، تتطلع تركيا إلى سيطرة أكبر على البحر المتوسط منذ سبعينيات القرن الماضي. كان غزوها لقبرص في عام 1974، عندما ضمت 40% من الجزيرة في أول مشروع لها في البحر الأبيض المتوسط منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، لحظة محورية. منذ ذلك الحين، أعطت العديد من "الانفتاحات" الجيوسياسية لتركيا مجالاً لاستعراض قوتها في البحر.

فتحت الأزمة المالية في اليونان وعدم قدرتها على الحفاظ على الإنفاق الدفاعي البحري الباب أمام التوسع التركي في المنطقة، في حين أن إحباط أنقرة من اعتمادها على موردي الطاقة الأجانب دفعها إلى البحث عن مصادر جديدة للغاز الطبيعي.

تسارعت وتيرة البحرية التركية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. حيث زادت قدرتها الصناعية المحلية وتمت ترقية أسطولها باستخدام معدات جديدة، بما في ذلك أنظمة الدفع والكشف والملاحة المتطورة.

منذ عام 2007، ضاعفت تركيا الإنفاق العسكري على البحث والتطوير 3 أضعاف، والذي بلغ 1.2 مليار دولار في عام 2018. وبلغ إجمالي ميزانية الدفاع 19 مليار دولار في عام 2019، بزيادة قدرها 24% عن العام السابق.

بالإضافة إلى ذلك، قدمت أنقرة برنامج "ميلغم" (MILGEM)، وهو مشروع طموح لإنتاج فرقاطات وطائرات حربية تابعة للبحرية التركية. وكدليل على مدى طموح هذا المشروع، تخطط البلاد لبناء 24 سفينة جديدة -فرقاطات وحاملات طائرات (بعضها متوافق مع F-35B) وسفن هجوم برمائية- ومن المتوقع أن يتم تشغيل معظمها بحلول عام 2023.

تقوم تركيا أيضًا بتطوير 6 غواصات جديدة بعيدة المدى وسلسلة من المدمرات لحملات أكبر وأكثر استدامة في شرق البحر المتوسط. ويدل استحواذها على هذه الأنواع من السفن على الحاجة المستمرة لبعثات مرافقة القوافل، حيث يمكنها مرافقة سفن الحفر التركية في المناطق المتنازع عليها حيث يوجد خطر حدوث صدام بين خصوم شرق البحر المتوسط.

بدأت تركيا أيضًا في الترويج لمعداتها المصنعة محليًا في الخارج في محاولة لتأسيس نفسها كمصدر عالمي للأسلحة، الأمر الذي من شأنه أن يمنح البلاد دفعة اقتصادية ويساعدها على وضع نفسها كقوة صناعية في البحر المتوسط. ربما كان التوسع في صناعة الدفاع التركية أكبر تطور منفرد في تقدم البحرية التركية، والذي يمكن أن يحقق أرباحًا اقتصادية واستراتيجية لسنوات قادمة.

وتأمل أنقرة أيضًا في البدء في إضافة المزيد من القواعد الأمامية، بما في ذلك قاعدة بحرية في شمال قبرص، على الأرجح في مدينة ماغوستا بالقرب من مضيق "إيسكيلي". وهذه القاعدة هي محور الاستراتيجية البحرية الناشئة لتركيا، لأنها ستسمح لتركيا بتوسيع قدراتها اللوجستية البحرية والحفر وإجراء عمليات نشر طويلة المدى في عمق البحر الأبيض المتوسط.

بالإضافة إلى ذلك، تقوم جمهورية شمال قبرص التركية بتجديد ميناء "ماراس" المهجور في ماغوستا بتكلفة 10 مليارات دولار، على الأرجح بدعم تركي. وقد زادت وتيرة التدريبات البحرية أيضا.

في أوائل عام 2019، استضافت البحرية التركية ثاني أكبر مناورات، أطلق عليها اسم "الوطن الأزرق"، وأجرت مناورات بالذخيرة الحية في المنطقة الاقتصادية الخالصة للقبارصة اليونانيين. وفي شهر مايو/أيار، نفذت أكبر تدريباتها البحرية، التي يطلق عليها تدريبات "ذئب البحر"، في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة.

وتخدم جميع هذه التطورات غرضًا رمزيًا واستراتيجيًا: فهي تبعث برسالة واضحة إلى خصوم تركيا -أي اليونان و(إسرائيل) وقبرص اليونانية ومصر- بأنها قوة يُحسب حسابها.

في حين أن كل هذه التحركات لتعزيز القوة البحرية التركية قد تشير إلى أن أنقرة تدرس بشكل متزايد مخاطر حدوث صراع تقليدي واسع النطاق في شرق البحر المتوسط. ومن المهم أن نضع في اعتبارنا أن تركيز أنقرة الأساسي لا يزال أقرب إلى الوطن، وخاصة الدفاع عن ساحلها وعن قبرص من التهديدات التي تشكلها اليونان وحلفاؤها.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه بسبب القيود البحرية على خصوم تركيا الرئيسيين في البحر الأبيض المتوسط، من غير المرجح حدوث نزاع كامل. يقدر عدد القوات المسلحة اليونانية بـ360500 فرد، أي نصف عدد القوات التركية البالغ حوالي 735000 فرد. يمتلك البلدان مجموعة مماثلة من الغواصات وسفن الدوريات والفرقاطات والمعدات البحرية، على الرغم من أن القدرات البحرية لليونان محدودة أكثر من تركيا، حيث تم إيقاف تشغيل العديد من السفن وأصبحت عتيقة الطراز.

ومنذ الأزمة المالية في اليونان، كانت جهود التحديث البحري بطيئة. ولكن أثينا لديها ميزة وجود حلفاء إقليميين. فاليونان عضو في منتدى شرق البحر المتوسط للغاز الذي تم إطلاقه مؤخراً، والذي يضم أيضًا مصر و(إسرائيل) وقبرص اليونانية وإيطاليا والأردن والأراضي الفلسطينية. في حين أن التركيز الرئيسي للمنتدى هو موارد الطاقة، فقد زاد أعضاؤه من التعاون البحري والتدريب المشترك.

في هذه الأثناء، تعد القوات المسلحة المصرية أكبر من القوات التركية، وتفوق أصولها البحرية من حيث الكم والجودة، لأنها تضم عددًا أكبر من حاملات الطائرات المروحية وسفن الدوريات. لكن عددًا قليلاً فقط من السفن السطحية والغواصات من طراز روميو 33 صالحة للخدمة، وقد تخلفت البلاد عن طريق التحديثات وإعادة التركيب مع تأخر اقتصادها.

لدى تركيا أيضًا قيودها الخاصة، والتي يجب أن تلقي بعض الشكوك على الأقل على احتمالات أن تكون القوة البحرية بلا منازع في البحر المتوسط. فلديها ما يقرب من 200 من الأصول البحرية، بما في ذلك فرقاطات وغواصات وسفن دوريات، ولكن معظمها يعود تاريخها إلى التسعينيات، وبعضها إلى أواخر السبعينيات، وتتطلب التحديث.

علاوة على ذلك، تشير حيازة تركيا للعديد من طائرات الهجوم السريع قصيرة المدى إلى قدرة محدودة على الانخراط في حملة بعيدة ومتواصلة في شرق البحر المتوسط ، بما في ذلك، على سبيل المثال، مهمة دعم حكومة الوفاق الوطني الليبي.

ومع ذلك ، فإن زيادة إنتاج تركيا للمعدات البحرية التقليدية وقدرات الطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى خططها لتعزيز قواعدها الأمامية في الصومال وقطر وبناء قاعدة بحرية في شمال قبرص، يعكس نواياها المتزايدة في المنطقة.

في النهاية، لتحقيق قدر أكبر من القوة، ما تحتاجه تركيا حقًا هو حاملات الطائرات والغواصات النووية والدفاع الجوي المعدل للحفاظ على خطوط الإمداد والعمليات البرمائية. لذلك ففي حين اتخذت أنقرة بعض التحركات الطموحة وأعلنت عن نواياها بشكل جريء، فلا يزال أمامها طريق طويل.

وفي الوقت الحالي، ستستمر تركيا في الحفاظ على كونها قوة بحرية مهيمنة مع اتخاذ خطوات بسيطة نحو توسيع نطاق وجودها في البحر المتوسط.

المصدر | كارولين روز - جيوبوليتكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

البحرية التركية شرق المتوسط الاتفاق الليبي التركي العلاقات التركية اليونانية

أردوغان: تركيا بصدد اتخاذ خطوة جديدة بليبيا وشرق المتوسط

الانهيار الخطير للتحالف الأمريكي التركي

فرنسا تطلب رسميا الانضمام لمنتدى غاز شرق المتوسط

إعلام عبري ينشر صورة ضاحكة لوزيري الطاقة الإسرائيلي والمصري

تركيا تنتقد منتدى غاز شرق المتوسط: بعيد عن الواقع

هل تستفيد تركيا من خط أنابيب ترك ستريم مع روسيا؟