هل يقضي فيروس كورونا على العولمة؟

الأحد 15 مارس 2020 06:33 م

في حفل عشاء في منتصف فبراير/شباط الماضي، أخبرني مهندس معماري أنه يواجه مشكلة في إنهاء مشاريع البناء الخاصة به، بسبب السجاد، موضحًا أن معظم السجاد في مشاريع البناء الكبيرة في الولايات المتحدة يأتي من الصين.

خلق تفشي فيروس "كورونا" في ووهان، والإغلاق اللاحق للعديد من المصانع الصينية، دوامات ممتدة أثرت على الاقتصاد العالمي وصولًا إلى السجاد في المباني الأمريكية.

هشاشة العولمة

كشف الانتشار العالمي للفيروس الجديد هشاشة الحياة الحديثة، فقد أضر "كورونا" بنظام العولمة في خضم انتشاره في أنحاء العالم، ما قلل بشكل كبير من التدفق الدولي للمال والسلع والناس.

أصاب المرض أكثر من 100 ألف شخص حتى الآن، لكن التقديرات الاستقرائية والخوف منه، هي التي تسببت في معظم التأثير الاقتصادي.

أصاب "كورونا" سلاسل التوريد العالمية التي تربط الشركات المصنعة والمستهلكين، حيث انخفضت حركة الموانئ في لوس أنجلوس - أكبر ميناء في الولايات المتحدة - بنسبة 25% في فبراير/شباط الماضي، كما انخفضت حركة الحاويات بشكل عام بأكثر من 10% الشهر الماضي.

كان المصنعون الذين يعتمدون على مصادر للمكونات في البلدان البعيدة يعيدون التفكير قبل "كورونا" في انخراطهم في خط التجميع العالمي بسبب التعريفات وتكاليف النقل، ويبدو أن اضطرابات "كورونا" ستعزز هذا التفكير في إعادة الإنتاج والتصنيع إلى الوطن.

لم يعد الناس يتحركون كثيرًا أيضًا، فقد أُلغيت خدمة خطوط الطيران داخل وخارج النقاط الساخنة الناشئة؛ مثل كوريا الجنوبية وإيطاليا، وانخفضت مبيعات تذاكر الطيران الأسبوع الماضي بنسبة 10% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، كما تلقت صناعة الرحلات البحرية ضربة كبيرة، بعد تفشي الفيروس على سفينتين كبيرتين.

بعد تجاهل الأسواق لتفشي فيروس "كورونا" في الصين لمعظم شهر فبراير/شباط الماضي، شهدت تراجعًا كبيرًا في الأسبوع الأخير من الشهر.

خسرت سوق الأسهم 6 تريليونات دولار  الأسبوع الماضي، وهو أسوأ ما أظهرته منذ الأزمة المالية قبل عقد من الزمان.

هذا دليل على استمرار التفشي وعدم كفاءة بعض زعماء الدول، ولا سيما "دونالد ترامب"، وعلى الرغم من تدخل الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى، لا تزال تقلبات السوق مستمرة.

مقوّضات أخرى للعولمة

قد يبدو من المضحك أن نتوقع أن شيئًا مسببًا للمرض (حتى لو كان ينتشر على صورة وباء) يمكن أن يعكس مسارًا اقتصاديًا مضى عليه أكثر من قرن، لكن تفشي "كورونا" يتزامن مع هجمات على العولمة الاقتصادية من عدة جهات مختلفة.

على سبيل المثال، لطالما شكك أنصار البيئة في النمو الاقتصادي العالمي غير المقيد، وعزز خطر تغير المناخ من هذا، كما أثار تفاقم التفاوت الاقتصادي تساؤلات حول قدرة العولمة الاقتصادية على إفادة الجميع، وحتى صندوق النقد الدولي اعترف بالتأثير الخبيث لهذا التفاوت.

وأخيرًا، يشير تباطؤ التكامل الاقتصادي العالمي خلال العقد الماضي إلى أن العالم ربما يكون قد تجاوز بالفعل ذروة العولمة.

على رأس هذه التحديات النظامية، استهدفت الشعبوية السياسية الصاعدة النخبة الاقتصادية العالمية باعتبار أنها عدو الشعب.

تحدى "ترامب" هذه النخبة والتزامهم الصارم بالتجارة الحرة من خلال فرض التعريفات على الحلفاء والخصوم على حد سواء وسحب مشاركة الولايات المتحدة في اتفاقيات التجارة الكبرى، مثل "الشراكة عبر المحيط الهادئ".

ربما كان الأثر الأكبر للحرب التجارية التي بدأها مع الصين، فقد ضربت كلا الاقتصادين بشدة، وحدث فقدان للوظائف، وتسببت في فواتير أعلى للمستهلكين، وخسارة للمصنعين والمزارعين والأسواق.

في الوقت نفسه، انسحبت المملكة المتحدة أخيرًا من الاتحاد الأوروبي هذا العام، فيما كان نصراً للقوميين الاقتصاديين، وشجب الشعبويون في أماكن أخرى ما يسميه "ستيف بانون": "طبقة دافوس".

لقد فتحت الأرثوذكسية النيوليبرالية المجال لتصريحات "أمريكا أولاً"، و"البرازيل أولاً"، وما شابه.

مثل هذه النكسة ليست قاتلة بالضرورة؛ فقد واجهت العولمة من قبل أزمات مالية وأوبئة مثل "إنفلونزا هونج كونج"، وحتى شبح "مشكلة عام 2000".

ومع ذلك، فإن فشل المجتمع العالمي هذه المرة في وضع قواعد جديدة للاقتصاد والبيئة والرعاية الصحية يخلق عاصفة من الخلل الدولي.

أوبئة تكتب التاريخ

عندما يسافر الناس، يجلبون جميع أنواع الأمتعة، بما في ذلك مسببات الأمراض.

وهكذا كانت حقبة الاستكشاف العظيمة هي أيضًا حقبة من الإبادة الجماعية الكئيبة؛ فقد جلب المستكشفون إلى العالم الجديد مجموعة من الأمراض مثل الجدري والحصبة التي كانت جديدة على مجتمعات السكان الأصليين.

أخضع الغزاة الاستعماريون الأمريكتين للحرب والرق، ولكن تلك الأمراض كانت المسؤولة إلى حد كبير عن الانخفاض الكارثي في ​​عدد السكان في الأمريكتين.

ترتبط الأوبئة ارتباطًا وثيقًا بحركة التجار والجنود، فقد كان الجنود الرومان العائدون من بلاد الرافدين مسؤولين عن الطاعون الذي دمر الإمبراطورية في القرن الثاني الميلادي، وهو واحد من العديد من الأوبئة التي ساعدت في إنهاء هيمنة روما العالمية.

بدأ الطاعون الدبلي في القرن الرابع عشر في الصين ووصل إلى أوروبا عبر السفن التجارية التي تحمل الجرذان المصابة بالبراغيث.

وفي العصر الحديث، قام الجنود العائدون من القتال في الحرب العالمية الأولى بنشر الإنفلونزا الإسبانية، ما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 50 مليون شخص.

كان هذا الوباء الأخير أحد العوامل الكامنة وراء انهيار الموجة الأولى من العولمة الحديثة.

فقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، كان العالم في أشد حالات ارتباطه، بفضل السفن البخارية والقطارات والبرقيات، وبلغت التجارة نسبة من الناتج المحلي الإجمالي وصلت 14% قبل الحرب.

وجه الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى ووباء الإنفلونزا ضربة قوية للتجارة العالمية والتكامل الاقتصادي، حيث أدى الكساد الاقتصادي العالمي في عشرينات القرن الماضي، وصعود أنواع مختلفة من القومية، والحرب العالمية الثانية إلى انخفاض نسبة التجارة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5% فقط بحلول عام 1945.

أصبحت العولمة الحديثة ممكنة بفضل الطب الحديث، فقد اندلعت بعض الأوبئة منذ عام 1945، لكنها لم تعطل النظام الدوري العالمي، حيث تمكن الأطباء في الآونة الأخيرة من التعامل مع تفشي أمراض بهذا الحجم.

بفضل الموجة الثانية من العولمة، ارتفعت التجارة مرة أخرى إلى المستويات التي سجلتها في عام 1914، ولكن ذلك لم يحدث إلا بحلول أواخر الثمانينات فقط، ومع انهيار الكتلة السوفييتية، أزالت موجة ثالثة من العولمة المزيد من الحواجز أمام حركة السلع والأموال.

حتى الصين - التي تعد دولة شيوعية اسميًا - انضمت إلى منظمة التجارة العالمية في نهاية عام 2001، ومنذ ذلك الحين قدمت نسختها الخاصة من العولمة من خلال مبادرة "الحزام والطريق" التي تضع الصين في مركز شبكة مزدهرة للتجارة والتمويل.

لن يضع فيروس "كورونا" بحد ذاته نهاية لهذه الموجة الأخيرة من العولمة، وإنما يمكن أن يساهم في مزيد من التجزؤ، مثل وباء إنفلونزا عام 1918، أو قد يدفع التفشي الأخير إلى إعادة التفكير في كيفية عمل العالم معًا.

الأشياء تتداعى؟

ستثبت الصين أنها محورية في تحديد المسار الذي يتجه إليه العالم.

في الوقت الحالي، يظهر النقاد الاقتصاديون في الغرب درجة من الشماتة في الصعوبات التي تواجهها بكين، حتى إن أحدهم جادل بأن الفيروس يسدل الستار بشكل نهائي على دور الصين منذ 30 عامًا كصانع رائد في العالم.

ولكن خط التجميع العالمي كان يتحول بالفعل بعيدًا عن المصادر الصينية نتيجة لتعريفات "ترامب"، ويعزز الوباء هذا الاتجاه فحسب.

لا يزال بإمكان الصين أن تخرج رابحة من كل هذا؛ فلم تعد تعتمد على التصنيع الرخيص، وقد تستثمر رأس مالها الفائض في دفع أكبر نحو زيادة الإنتاج الأرقى قيمة، خاصة في المجال الرقمي.

يعتمد الكثير على العلاقة بين الولايات المتحدة والصين؛ فقبل أزمة الفيروس بفترة طويلة، كانت النخبة السياسية الأمريكية قد ابتعدت بالفعل عن دعم المشاركة مع الصين، كما استعدت الصين لفك الارتباط، ووضعت الأساس لعولمة بديلة، تسيطر عليها عملتها الخاصة وتمولها الفوائض التجارية الكبيرة للبلاد.

أيضًا، اختارت العديد من البلدان المجاورة للصين المشاركة في مبادرة "الحزام والطريق" والحصول على تمويل من "بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية".

ولكن، تسبب الفيروس في إعادة اكتشاف الصين لمدى اعتمادها على بقية العالم؛ لبيع المنتجات الصينية، وتزويد المستهلكين الصينيين، وتوفير المواد الخام للأعمال الصينية، وخدمة السياح الصينيين.

تم تعديل معدل النمو المتوقع في الصين لعام 2020 من 6% إلى 5% ، ولكنه قد ينخفض ​​أكثر.

رأى عالم الاجتماع "والدن بيلو" منذ فترة طويلة أن الاقتصاد الصيني هش للغاية، في ظل السعة المفرطة في قطاع التصنيع، وفقاعة العقارات، وارتفاع معدلات الديون، وزيادة التفاوت.

كانت بكين تأمل في إيجاد طريقه للخروج من هذه المشاكل عبر مبادرة "الحزام والطريق"، ولكن هذه الاستراتيجية تعتمد على عدد من المتغيرات غير المعروفة، التي تشمل تطور الوباء ونتائج الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة.

ويعتبر فيروس "كورونا" دعوة لليقظة لكل من بكين وواشنطن، وتذكير بأن وضع الحرب الباردة الراهن الذي أعيد إحياؤه بينهما لن ينجح، لقد حان الوقت لموجة أخرى جديدة من العولمة، تعمل على تقليل انبعاثات الكربون، وتتقدم بشكل أكثر إنصافًا، وتعزز قدرة المؤسسات الدولية على مكافحة الأوبئة.

لن يحدث ذلك بدون التعاون الأمريكي الصيني، وهذا لن يحدث بدون رئيس أمريكي مختلف ونهج مختلف في بكين.

المصدر | جون فيفر | فورين بوليسي إن فوكس - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

فيروس كورونا ثقافة العولمة وباء

كورونا يلاحق المشاهير ويربك الأسواق ويثير قلق القادة

معهد إسرائيلي: هكذا يؤثر كورونا على خارطة التنافس الإقليمية والدولية

كيف يبدو الاقتصاد بعد مرور جائحة كورونا؟

انهيار سلاسل التوريد يهدد باندلاع صراعات كبرى