كورونا.. مخاطر صعود الإقطاع الرقمي في عالم متعدد الأقطاب

السبت 18 أبريل 2020 06:39 م

تعجّل حالة الطوارئ الصحية العالمية الحالية التي أثارها "كوفيد-19" من التغييرات العميقة التي سيكون لها آثار بعيدة المدى ليس فقط على طريقة إدارة العلاقات الدولية ولكن في كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي.

أصبح نفوذ الجهات الفاعلة من غير الدول في المسرح الدولي أكثر أهمية، حيث بدأت الدول تفقد تدريجياً دورها الحصري في بناء النظام الدولي المتعدد الأطراف.

والآن؛ يرتبط تضاؤل سيادة الدول مع السلطة والنفوذ المتزايدين للشركات العابرة للحدود -مثل شركات التكنولوجيا العملاقة- وخصخصة القوة العسكرية، والدور الدولي للجيوش والميليشيات الخاصة، والمنظمات الإرهابية العابرة للحدود، وعصابات المخدرات والمجموعات الإجرامية الأخرى.

وتضرب حالة من الاضطراب الهيكل المؤسسي والاقتصادي الذي تم ترسيخه في نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تسبب في واحدة من أطول فترات الاستقرار والازدهار في التاريخ الحديث.

انهيار النظام العالمي الحالي

يترأس فريق الهدم للنظام العالمي الحالي مؤسسه الرئيسي الولايات المتحدة.

ومن غير العدل إلقاء كل اللوم على الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في هذه الأزمة الناتجة عن عملية العولمة نفسها وإخفاقات النظام المتعدد الأطراف، التي عجلت بها أزمة فيروس "كورونا".

ومع ذلك، فإن سياسة حافة الهاوية المتهورة في تعامل "ترامب" مع العلاقات الدولية تعمل على تسريع وتفاقم إخفاقات النظام، وتعطيله للمؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة، وتجاهله للاتحاد الأوروبي وغموضه تجاه "الناتو"، مما يعيق قدرة تلك المؤسسات -المحدودة أصلًا- على الاستجابة للتحديات المتزايدة المقبلة.

إن أوهام الشعبويين والأعداء الآخرين للتعددية الليبرالية حول قدرتهم على استبدال نظام دولي يعتبرونه ضعيفًا وغير فعال والعودة إلى أمان سيادة الدولة والسياسات الأحادية، هي أوهام غير واقعية مثل تلك التي لا تزال تعتقد أن الهيكل المؤسسي الدولي متين بما يكفي لتحمل الصدمات الجيوسياسية الحالية دون إجراء حاسم.

تجدد العصور الوسطى

سيكون لخصخصة تكنولوجيا المراقبة والخدمات العسكرية عواقب بعيدة المدى، لأنها تؤثر على سلطة الدولة المعتمدة على الاستخدام المشروع للقوة لضمان النظام الاجتماعي والأمن.

وبالتالي، فإن البدائل العسكرية -وليس المبادرات الدبلوماسية- أصبحت أسهل وأكثر قبولًا سياسيًا، كما يمكن في نهاية المطاف لأي فرد أو شركة ثرية أن يوظفوا جيشًا خاصًا لأسبابهم الخاصة.

ويعتبر سيناريو فرق "كوندوتييرو" والمرتزقة في أوروبا في العصور الوسطى، أقرب لتمثيل الواقع من سيناريو العودة إلى العصر الذهبي لسيادة الدولة.

يمكن لـ"الرؤية الهوبزية" للنظام الدولي المستقبلي أن تساهم في تفكيك النظام الليبرالي متعدد الأطراف، الذي تلقى انتقادات من جهات مختلفة في شكله الحالي، ولكن لا توجد رؤية بديلة لنظام بديل.

يشير التحول في الصفائح التكتونية للسياسة الدولية إلى نظام متعدد الأقطاب وغير مستقر للغاية تتعايش فيه دول ذات سيادة متضائلة مع هيكل متعدد الأطراف تعرض للتآكل، وأطراف فاعلة قوية من غير الدول.

تضاءلت ثقة المواطنين في قادتهم والديمقراطية الليبرالية بسرعة في العقد الماضي، بالتوازي مع نمو وسائل التواصل الاجتماعي. وتعتبر المشكلة أعمق من تأثير الأخبار المزيفة أو الحوكمة المعيبة أو الفساد.

لم تعد سردية النظام الليبرالي الدولي للازدهار المتزايد الذي يغذيه النمو الاقتصادي اللامتناهي ذات مصداقية بعد الآن.

يقدم الوضع في الشرق الأوسط مثالاً صارخًا بشكل خاص لكيفية تسريع هذه الأزمة من عملية تفتيت السلطة، والانهيار المؤسسي، والفساد المستشري والحوكمة الفاشلة.

يمكن اعتبار سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن أمثلة لهذا النموذج من العصور الوسطى الجديدة، حيث يكون الفاعلون من غير الدول صانعي القرار الرئيسيين.

وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، سيعاني أكثر من 60% من المواطنين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من ضعف اقتصادي حاد خلال هذا العقد، وتعد التفاوتات المتزايدة، وآثار تغير المناخ، وندرة الموارد في المستقبل، وتأثير التشرد السكاني غير المسبوق، وعودة المخاطر الصحية التي اعتقدنا أنه تم القضاء عليها، أرضًا خصبة للتحول الكارثي.

تجدد العبودية الإقطاعية

لم تؤد صدمة الأزمة المالية لعام 2008 إلى تحول جذري في الأسباب العميقة لفشل النظام المالي، وقد يعود الركود مرة أخرى نتيجة "كوفيد-19"، ولكن سيكون من الضحالة الاعتقاد بأن هذا نتيجة الآثار الاقتصادية للتدابير الطارئة المتخذة للتعامل مع الوباء.

الكارثة الاقتصادية الوشيكة نتيجة لمشكلة أعمق بكثير تتعلق بطبيعة نموذجنا الاقتصادي والمؤسسات السياسية التي تدعمه.

فتح تحرير الأسواق المالية الطريق أمام الثروة الكبيرة ولكنه زاد من التفاوتات الاجتماعية الخطيرة وهشاشة النظام.

ستجبر مبالغ الدين العام التي تتكبدها معظم دول العالم -والتي زادت بشكل كبير بعد تبعات الأزمة المالية لعام 2008 والآثار الاقتصادية لوباء الفيروس التاجي- الأجيال القادمة على أن تولد في عبودية مالية، بالطريقة نفسها التي كانت العبودية الإقطاعية تفرضها.

يتطور الذكاء الاصطناعي بسرعة، وستؤدي ثورة البيانات الكبرى والآثار المترتبة على تكنولوجيا الجيل الخامس إلى مضاعفة قدرة الحكومات على التحكم في مواطنيها.

إذا كانت حقوق المواطنين مقيدة سابقًا كخيار طوعي بين الحرية والأمن، فسيُطرح علينا الآن خيار جديد بين الصحة والخصوصية.

إذا كان ظهور دول المراقبة أمرًا مثيرًا للقلق الشديد، فمن المثير للقلق أكثر أن الأدوات التكنولوجية الجديدة والبيانات الشخصية هي في الواقع في أيدي الشركات الخاصة القوية.

وإذا لم يتم التعامل مع هذه المشكلة الآن، فإن التواطؤ بين دولة المراقبة والإقطاع الرقمي سوف يطمس الفرق بين الدول الشمولية والديمقراطية بطرق لا يزال من الصعب تخيلها.

تهديد الإقطاع الرقميّ

ستصبح العديد من إجراءات الطوارئ التي اتخذت الآن عنصرًا أساسيًا في الحياة، وسيكون الاختيار بين المراقبة الشاملة وتمكين المواطنين أو بين تقلص القومية وتوسع العولمة عنصرا أساسيا في تشكيل الدورة التاريخية القادمة.

يغذي جمع البيانات الشخصية نمو شركات التكنولوجيا العملاقة، ويجتذب حصة متزايدة من جميع الاستثمارات العالمية مما يضر بالاقتصاد المنتِج، وخلق فرص العمل، والبنية التحتية الاجتماعية.

تراكم 10% من الشركات الكبرى 80% من رأس المال الدولي، ومعظمها شركات التكنولوجيا العملاقة.

لا تتوقف هيمنة الشركات الكبرى على جمع البيانات فقط، ولكنها أصبحت تمتلك نفوذًا سياسيًا لا يمكن السيطرة عليه على المستوى العالمي.

تمت الإشارة إلى تأثير التلاعب الذي حدث عبر الوسائط الاجتماعية في تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو في الانتخابات الأمريكية الأخيرة باعتباره رأس جبل الجليد، فيما يتعلق بالأدوات الجديدة للتأثير على الرأي العام وتغيير طريقة عمل الديمقراطية.

كتبت الصحفية والمؤلفة "رنا فروهر" عن قدرة كبار شركات التكنولوجيا العملاقة لدينا الآن على تعديل تصورات الناس وسلوكهم من أجل الربح والسيطرة.

إن الكم الهائل من البيانات الشخصية هو المورد الطبيعي الأكثر قيمة للاقتصاد الجديد. لم يعد الناس هم العملاء بعد الآن، إنهم المنتج، وفي هذا التحول الميتافيزيقي لن نكون مختلفين تمامًا عن الخدم المستعبدين في العالم الإقطاعي.

من المؤكد أن نطاق الخيارات التي يواجهها القادة السياسيون، أو المدراء التنفيذيون في الشركات، أو الناشطون الاجتماعيون، أمر يصعب التعامل معه.

تقاوم شركات التقنية العملاقة في الولايات المتحدة دعوات تنظيم عملها وتحديد نفوذها بدعوى أن ذلك سيمنح الصين أفضلية في قطاع استراتيجي حيوي.

تدفع مطالب ضمان الأمن المحكم، الديمقراطيات إلى تبني أنظمة المراقبة نفسها التي ننتقدها في الدول الشمولية، كما أن صناعة الخدمات العسكرية الخاصة أصبحت أعمالًا تجارية بمليارات الدولارات مدرجة في بورصة نيويورك.

قبل أن يتم تشغيل شبكات الجيل الخامس الجديدة، قد تكون لدينا فرصة أخيرة لدمج الجوانب المفيدة لهذه الثورة التكنولوجية مع الحفاظ على حقوق المواطنين وقواعد ضابطة لعمل الشركات.

القضية الأساسية هنا ليست ما إذا كنا سنسمح بسيطرة شركة صينية على هذه البنى التحتية، ولكن في السماح بامتلاك أي شركة أو حكومة لذلك النفوذ على كل جانب من جوانب حياتنا.

سيكون لمثل هذه القرارات تأثير جيوسياسي بعيد المدى، مما يساهم في الحفاظ على التعاون المتعدد الأطراف الذي نحتاجه لمواجهة التحديات العالمية وإدارة الأزمة الدولية الناشئة.

وفي مواجهة مثل هذه الاحتمالات؛ يعد النجاح أمرًا غير مؤكد ولكن تكلفة عدم المحاولة ستكون بلا شك أعلى بكثير.

المصدر | رامون بليكوا - ريسبونسيبل ستيتكرافت - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

فيروس كورونا خسائر كورونا تداعيات كورونا النظام العالمي

كيف يغير كورونا الحسابات الجيوسياسية لأمريكا؟

وزير خارجية فرنسا: العالم بعد كورونا قد يكون أسوأ

هل تنجح دول الخليج في استثمار التسارع بالاقتصاد الرقمي؟