منظومة فساد متكاملة.. هكذا جلبت النخبة اللبنانية الفقر للشعب

الأحد 19 ديسمبر 2021 12:11 ص

يتغلغل الفساد في لبنان نتيجة ممارسات النخبة التي تعتبر المناصب العامة فرصة لكسب المال. وتتألف هذه النخبة من سياسيين وزعماء دينيين ومسؤولون في قطاع البنوك والقضاء وكبار ضباط الجيش والأمن.

وشكلت هذه الطبقة منظومة متكاملة وخلقت لبنان الحديث ونمت بشكل كبير بعد الحرب الأهلية (1975-1989). لكن معاناة الشعب اللبناني تزايدت خلال العامين الماضيين من الانهيار الاقتصادي والأزمة السياسية وعدم الاهتمام بالإصلاح المالي.

فخ الاعتراف

بدأ كل شيء في عام 1943 بإبرام الميثاق الوطني بين الرئيس المسيحي الماروني "بشارة الخوري" ورئيس الوزراء السني "رياض الصلح"، مما بشر بنظام سياسي قائم على التوافق الطائفي. وأعطى الميثاق المكونات الطائفية أفضلية على الدولة نفسها. 

وقد حابت العملية التشريعية المربكة الزعماء الطائفيين وتابعيهم وحمتهم من الاستجواب القانوني وكانت النتيجة وضعا مهد الطريق لأزمات سياسية وحروب أهلية وتدخل أجنبي.

ودمرت الحرب الأهلية الجمهورية الأولى وميثاقها الوطني. ودشن اتفاق الطائف عام 1989 الجمهورية الثانية التي كان يديرها قادة الميليشيات ورجال الأعمال، لكنها فشلت في حل الصراع الطائفي.

واجتمع البرلمان اللبناني في السعودية وأقر الاتفاق معتبرا إياه ترتيبا مؤقتا مدته 10 سنوات لإنشاء دولة علمانية في نهاية المطاف. وعلى عكس الترتيب الماروني-السني لعام 1943، ضم الاتفاق هذه المرة الطائفة الشيعة، مما أعطى الطوائف الثلاث الكبرى تمثيلا متساويا في الفروع الرسمية الثلاثة للحكومة ووفر الوصول إلى الحقائب الوزارية المربحة ماليا.

وبدلاً من تعلم الدرس من الحرب التي أسفرت عن مقتل أكثر من 200 ألف شخص، دمرت الطبقة الحاكمة بعد الحرب مؤسسات الدولة ومنعت الوصول إلى دولة حديثة يسود فيها حكم القانون.

وفي عام 2019. بدأت مظاهرات واسعة النطاق في أكتوبر/تشرين الأول طالبت بإسقاط الطبقة السياسية بأكملها، ولكن تراجعت هذه المظاهرات بعد بضعة أشهر واختفت تماما في النهاية المطاف بالرغم من الأزمة المالية وانخفاض قيمة العملة والتضخم الحاد. وظلت النخبة السياسية الطائفية في مكانها مما أعاد تأكيد هيمنتها.

ويجعل النظام السياسي اللبناني من المستحيل عمليا محاكمة المسؤولين العموميين. وعندما سأل الإعلام أين ذهبت 11 مليار دولار خلال فترة وزير المالية السني، رفض الوزير استجوابه. ومن جهة أخرى، رفض رئيس الأمن الداخلي تنفيذ مذكرة صادرة عن المحقق القضائي بالقبض على عضو آخر في مجلس الوزراء على صلة بالانفجار الهائل في ميناء بيروت العام الماضي.

وتكثر الأمثلة على التهرب من المسؤولية. في إحدى الحالات، اشترى وزير الطاقة معدات تالفة بأكثر من 2.5 مليار دولار وباعها خليفته على أنها خردة مقابل بضع مئات الآلاف من الدولارات.

علاوة على ذلك، فإن التحقيقات في انفجار ميناء بيروت لا تزال غير محسومة. ولم ينعقد مجلس الوزراء خلال الشهرين الماضيين لأن "حزب الله" وحلفاءه طالبوا بإقالة قاضي التحقيق قبل المشاركة في اجتماعات مجلس الوزراء. ويعتقد كثير من اللبنانيين أن نترات الأمونيوم التي تسببت في الانفجار تخص "حزب الله" بالرغم من امتناع المسؤولين الحكوميين عن قول ذلك.

واستدعى المحقق رئيس الوزراء السابق وعدد من أعضاء مجلس الوزراء، لكنهم زعموا أنه لا يملك سلطة ذلك. ورفع مسؤولون متورطون في قضايا إهمال جنائي 16 دعوى قضائية للمطالبة بإقالة المحقق.

وفي عام 2019، فر اللبناني البرازيلي "كارلوس غصن"، الرئيس التنفيذي  السابق لتحالف رينو-نيسان، من اليابان إلى لبنان هروبا من اتهمات جنائية مالية. ورفضت الحكومة اللبنانية تسليمه. واستضافه الرئيس في قصره.

في عام 2013، أدان الفاتيكان قسيسًا لبنانيًا بتهمة الاعتداء الجنسي على قاصرين. وفي عام 2016، طالبت فرنسا بتسليمه لمحاكمته. ورفضت الحكومة اللبنانية الطلب، ودافع عنه البطريرك الماروني، زاعمًا أن التهم الموجهة إليه هي مؤامرة كيدية ضد الكنيسة. وعندما حاكمته محكمة فرنسية غيابيا وحكمت عليه بالسجن 15 عاما، التزمت الكنيسة المارونية الصمت حيال هذه القضية.

تدمير القطاع المصرفي

ببساطة، تحمي الطائفية السياسيين الفاسدين من المساءلة والملاحقة القضائية. لطالما كان الفساد المالي في لبنان وسيلة لإنجاز الأعمال الحكومية. لكن في ظل اتفاق الطائف، وصل الفساد إلى آفاق جديدة حيث استبدلت الحرب الأهلية القادة التقليديين والإقطاعيين الأثرياء بطبقة سياسية جديدة من أصول اجتماعية واقتصادية متواضعة.

وساهمت هذه الطبقة مع البنك المركزي في استنزاف الخزانة كما استغلوا المودعين في البنوك لسرقة مدخراتهم من أجل تجميع الثروة في أسرع وقت ممكن. وبحلول عام 2010، أصبح من الواضح أن لبنان يتجه نحو الانهيار المالي.

وبعد سنوات من التحذير من قبل وكالات التصنيف الائتماني الكبرى بشأن الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق، انهار النظام المالي في لبنان في عام 2019، مما أجبر الحكومة على التخلف عن سداد أقساط قرض بقيمة 1.2 مليار دولار في مارس/آذار 2020.

وفي عام 2017، وصلت ودائع البنوك اللبنانية إلى 170 مليار دولار أقرضتها البنوك للبنك المركزي مقابل سعر فائدة ضخم، قاموا بإيداعه في البنوك الأجنبية. وقد أقرض البنك المركزي الأموال للحكومة للإنفاق على المرتبات والمشاريع العامة. وقد استولت الحكومة على معظم الأموال من خلال النفقات المتضخمة والمشاريع الوهمية. وتعتبر البنوك اللبنانية مفلسة من الناحية الفنية، لكن البنك المركزي يبقيها عاملة بشكل مصطنع.

وبحلول عام 2021، تمكنت البنوك المعسرة من تقليص ودائعها إلى 138 مليار دولار من خلال الدفع للمودعين بالعملة اللبنانية بسعر صرف أقل بكثير من سعر السوق. وقد تجاوز الدين الوطني للبنان خلال العام الجاري 97 مليار دولار، أي أكثر من 170% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأدى تراجع أسعار النفط منذ عام 2015 وانخفاض تحويلات المغتربين اللبنانيين في الخارج وقيود العمالة اللبنانية في دول مجلس التعاون الخليجي إلى هشاشة القطاع المصرفي. وما بدا على أنه وفرة مالية كان في الواقع مخطط شامل يشارك فيه البنك المركزي وجمعية المصرفيين عن طريق منح المودعين معدلات فائدة مربحة لجذب المزيد من الودائع. وقبل أشهر من بدء احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، فرضت البنوك ضوابط صارمة على سحب الدولار.

ومع اندلاع الاحتجاجات، أغلقت البنوك، التي تعاني من نقص السيولة، أبوابها لمدة أسبوعين. وعندما أعادت البنوك فتح أبوابها حظرت سحب الدولار وحدت من السحب من العملة الوطنية. باختصار، اختطفت النخبة السياسية والمالية والقضائية والأمنية في لبنان مدخرات الشعب.

ويخضع محافظ البنك المركزي للتحقيق في فرنسا وسويسرا بتهمة ارتكاب جرائم مالية وغسيل أموال. وقد واجه صعوبة في شرح من أين حصل على كل أمواله، خاصة بعد أن حوّل 300 مليون دولار إلى حسابات بنكية أوروبية بأسماء أفراد الأسرة المقربين. وخلال الأشهر الأولى من الأزمة المالية، قام بتحويل مليارات الدولارات تخص سياسيين ورجال الأعمال إلى البنوك الأجنبية بينما لم يتمكن المواطنون من الوصول إلى حساباتهم الدولارية في البنوك المحلية.

عامل "حزب الله"

لم يشمل اتفاق الطائف أقوى مجموعتين في لبنان ظهرت بعد ذلك: "حزب الله" و"التيار الوطني الحر". وقد اختار "حزب الله" البقاء خارج النظام السياسي لأنه يعتبر نفسه حركة مقاومة تحارب الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. كما أن الرئيس "ميشال عون"، الذي أسس لاحقًا "التيار الوطني الحر" وتحالف مع "حزب الله"، كان لا يزال ضابطًا منشقًا في الجيش.

ودخل "حزب الله" السياسة اللبنانية عام 1992 عندما تحالف مع منافسه "حركة أمل" الشيعية في أول انتخابات برلمانية منذ نهاية الحرب الأهلية. وعند عودته من المنفى في فرنسا عام 2005، أسس "عون" التيار الوطني الحر. وفي عام 2006 وقع مذكرة تفاهم مع "حزب الله" لا تزال سارية.

وظل منصب الرئيس شاغراً لمدة عامين لأن "حزب الله" أراد تعيين رئيس على استعداد لقبول وضعه المتميز والتعاون معه دون قيد أو شرط. وقبل "عون" بشروط "حزب الله" وفاز بالرئاسة عام 2016. وفرض "حزب الله" قانون انتخابي جديد على أساس التمثيل النسبي سمح له بالحصول على أغلبية في البرلمان.

وتقدم الحكومة لـ"حزب الله" معاملة تفضيلية على قدم المساواة مع الجيش، حيث لا يدفع الحزب ضرائب وتعد وارداته معفاة من الجمارك. ويدير الحزب العديد من الشركات تتمتع بميزة تنافسية على الشركات الخاصة.

تساهم البيروقراطية الوطنية بشكل غير مباشر في تمويل "حزب الله" لأن العديد من الموظفين الإداريين والمقاتلين هم موظفون وهميون في الحكومة.

سياسة الوضع الراهن

وفي مواجهة المشاكل الاقتصادية، يتمثل نهج النخبة الحاكمة في عدم القيام بأي شيء. وخوفًا من أن يؤدي الضغط الدولي إلى الانخراط في إصلاح مالي قد يضر بمكاسبهم من اختلاس الأموال العامة، اختارت القيادات الطائفية تعليق اجتماعات مجلس الوزراء.

وبعد بداية الانهيار الاقتصادي والمالي، أبدت الولايات المتحدة وفرنسا ودول الخليج وصندوق النقد الدولي مرارًا استعدادها لتقديم المساعدة المالية بشرط استعداد الحكومة اللبنانية للشروع في إصلاحات اقتصادية وإدارية شاملة. ومنذ ذلك الحين، كان لدى لبنان 3 حكومات لم تفعل شيئًا سوى مناقشة الإصلاح دون الاتفاق على استراتيجية.

وكثيرا ما يزور المسؤولون اللبنانيون العواصم الأجنبية لطلب المساعدة المالية دون جدوى لأنهم غير مستعدين لتغيير سلوكهم. وتعد مفاهيم المساءلة والالتزام العام دخيلة على تفكيرهم السياسي.

وفي 2018، بلغ نصيب الفرد من القوة الشرائية في لبنان ما يقرب من 16 ألف دولار. واليوم، يبلغ الدخل الاسمي للفرد حوالي 100 دولار. ومع ذلك، فإن الحكومة غير مستعدة للارتقاء إلى مستوى الحدث ووضع البلاد على طريق الانتعاش الاقتصادي. ويعد الأمل الوحيد للبنان هو التدخل الإنساني الأجنبي لأن النخبة الحاكمة فيه غير صالحة للحكم.

المصدر | جيبوليتكال فيوتشرز - هلال خاشان - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الفساد في لبنان الحكومة اللبنانية الانقسام اللبناني اتفاق الطائف حزب الله ميشال عون

محذرا من عدم التحرك سريعا.. بري: لبنان ينتظر أسبوعا حاسما

عون: الفساد سبب أزمة لبنان ونحتاج 7 سنوات للخروج منها

الأزمة تتفاقم.. فقراء لبنان ينبشون النفايات بحثا عن قوتهم