ديفيد هيرست: النقابات ستكون هدف قيس سعيد القادم بعد الدستور

الخميس 28 يوليو 2022 12:25 م

لا يختلف أحد حاليا على أن استيلاء "قيس سعيد" على السلطة في تونس قبل عام كان انقلابًا؛ وأن الوثيقة التي نشرها موقع "ميدل إيست آي" والتي حددت ما سيحدث قبل شهرين من تحرك "سعيد" كانت خطة حقيقية نفذها بالفعل، وأن تونس تهوي الآن نحو الديكتاتورية.

حتى السياسيون الذين أيدوا "سعيد" قبل أن يطيح بهم لن يجادلوا اليوم بأن هذا كان انقلابًا، والأمر ذاته يسري على النقابات التي دعمته والتونسيين الفقراء الذين لم يعارضوا انقلابه، فقد تراجعت شعبيته من نحو 80% إلى 22%. وحتى الشباب الذين كانوا مقتنعين العام الماضي بأن "سعيد" سيأتي بعهد جديد، أصابتهم خيبة الأمل الآن.

واتسعت المعارضة لمساعي "سعيد" بجمع كل سلطات الدولة في قبضته دون رقيب ولا حسيب، وتجاوزت هذه المعارضة حركة "النهضة" التي لا تزال أكبر حركة سياسية في البلاد.

وبعد مرور عام، يتخذ "سعيد" حاليًا خطوة مهمة لإحكام قبضته على السلطة من خلال فرض دستور يدمر جميع القيود التي تقف بوجه سلطته المطلقة. وأظهرت نتائج استفتاء يوم الإثنين انخفاض نسبة الإقبال حيث بلغت 27.5% فقط، وفقا لأرقام أولية من هيئة الانتخابات.

خدعة الدستور

يبدو أن "سعيد" هو الكاتب الوحيد للدستور الذي قدمه للتصويت. وقد كان معه مؤلفون آخرون، لكن "سعيد" فرض النص الذي يريده بالقوة، وهو النص الذي رفضه "صادق بلعيد"، رئيس اللجنة الاستشارية التي عينها "سعيّد" بنفسه لتضع مسودة الدستور الجديد.

وكشف "بلعيد" أن "سعيد" أجرى تغييرات جوهرية كثيرة على النسخة المقدمة له من قبل اللجنة. ويشار إلى أن "بلعيد" كان واحدًا من أقرب المقربين لـ"سعيد".

ويقضي الدستور الجديد على دستور 2014 الذي استغرقت صياغته عامين واستشارة مكثفة على المستوى المحلي والوطني. ويركز الدستور الجديد جميع الصلاحيات في قبضة الرئاسة ويمنحها الهيمنة التامة على البرلمان والقضاء والسلطة التنفيذية، وبالتالي يدمر مبدأ فصل السلطات الذي يعتبر ضروريًا لأي بلد ديمقراطية.

ولتمرير هذا الدستور، كان على "سعيد" أن يقيل هيئة الانتخابات التونسية التي قامت بعمل جيد في 7 انتخابات سابقة ووضع مكانها أشخاصًا موالين ينفذون ما يريد. وحتى آخر لحظة ظل "قيس سعيد" ينتهك القواعد التي وضعها هو بنفسه، حيث انتهك قانون الانتخابات من خلال بث مقطع فيديو على قناة رسمية في يوم التصويت.

وقاطعت جميع الأحزاب الانتخابات عدا حزب واحد، ولم يكن هناك مراقبون. وبالتالي، فإن نتائج مثل هذا الاستفتاء المزيف غير مهمة، ولا شك أن "سعيد" نفسه سيتظاهر بالدهشة من النتيجة، لكن هذا سيكون بمثابة الارتداد إلى أسوأ أعوام حقبة ما بعد الديكتاتورية الاستعمارية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وهذا نفس ما فعلته صحيفة "ذا نيشن" الكينية - التي كانت بوقًا إعلاميًا للرئاسة - حين تظاهرت بالدهشة لدى إعلان انتخاب الرئيس المستبد "جومو كينياتا"، كما لو أن الحزب الحاكم لم يفز بكل مقعد في كل انتخابات من 1969 إلى 1988. وهذا ما سيحدث في تونس اليوم.

ولا يشترط حد أدنى للمشاركة، مثل المطلب المعتاد بألا تقل نسبة من يصوتون بنعم في الاقتراع عن 55% من السكان. ورغم أنه متخصص في القانون الدستوري، لا يأبه "سعيد" بالتفاصيل، فكل ما يهمه هو أن تكون السلطة المطلقة في يده، إذ يعتبر نفسه سلطاناً، ورجلاً بإمكانه أن يرى ما هو أبعد من احتياجات الحاضر، وحاكماً بأمر الله. ولكم تكرر مثل هذا النموذج في الماضي، ولا مفر من أن يفضي ذلك إلى نتائج وخيمة.

سلطة مطلقة ومقاومة القضاة

يقود القضاة الشجعان في تونس خط المقاومة للديكتاتورية، وتعد هذه مفاجأة، فلم يكن الأمر كذلك في عهد "الحبيب بورقيبة" و"زين العابدين بن علي"، حيث كانت المحاكم ذراعًا خاضعًا للغاية للرئاسة. لكن زملاء "سعيد" السابقين في مهنة القانون ليسوا كذلك.

بالطبع ليسوا جميعًا هكذا، فالبعض على استعداد لقبول ما أصبح معروفًا في الأزمنة السوفيتية باسم "العدالة بالهاتف"، عندما كانت الأحكام تأتي بالهاتف للقضاة من الحزب الحاكم.

ونظم اتحاد القضاة إضرابًا لمدة شهر احتجاجًا على إقالة 57 منهم، اتهمهم "سعيد" بالفساد وحماية الإرهابيين، لكن معياره لمثل هذا الاتهام فضفاض للغاية؛ حيث يشمل أي قاض يعصي أوامره. ويتم إعداد قائمة جديدة لهؤلاء القضاة العصاة، وسوف تتضمن بالتأكيد القاضي الذي أبطل تهمة غسيل الأموال المفبركة بحق "راشد الغنوشي".

واتهم "راشد الغنوشي" بتلقى أموال من حكومة أجنبية وغسلها عبر منظمة أخرى تلعب دور الواجهة تعود إلى صحفي بريطاني، كانت له شهرة واسعة في الشرق الأوسط، لكن تقاريره كان يكتنفها من الخلل قدر ما يميزها من صدق، إنه الراحل "روبرت فيسك" الذي نشر تقريراً زعم فيه أن "الغنوشي" تلقى أموالا هائلة من أمير قطر عشية الانتخابات، وكان مصدر المعلومة التي نقلها "فيسك" هو وزير خارجية النظام السوري" وليد المعلم" الذي كان في طابور من وقفوا على باب الأمير في قطر ينتظرون اللقاء به.

ورفعت حركة النهضة قضية ضد الصحيفة وكسبتها واضطرت "الإندبندنت" إلى دفع تعويض ونشر اعتذار يبعث على الغثيان، جاء فيه: "نود أن نوضح بجلاء أن السيد الغنوشي وحزبه لم يتلقيا أي تبرع من أي دولة أجنبية، الأمر الذي كان سينتهك قانون تمويل الأحزاب التونسية. ولذا فإننا نعتذر للسيد الغنوشي". كما تمت مقاضاة صحف عربية أخرى نشرت المزاعم، حيث أدينت هذه الصحف، لكنها راوغت وتهربت من دفع المخالفات، حتى إن واحدة منها لجأت إلى إعادة تشكيل شركتها في لندن.

والأسبوع الماضي، لم يقبل القاضي الذي ترأس التحقيق في القضية شيئاً من ذلك، وكان الادعاء قد زعم أن "الغنوشي" تربطه علاقات بجمعية "نماء" التونسية، والتي اتهمت بغسيل الأموال. ورفض القاضي طلب الادعاء توقيف "الغنوشي" بينما لا يزال خاضعاً للتحقيق، وبعد جلسة استمرت 9 ساعات، أمر القاضي بالإفراج عن "الغنوشي"، مع أن التحقيق معه استمر حول مزاعم أخرى.

وكانت هناك أمور مزعجة أخرى في هذه القضية، ومنها أن الجلسة عقدت في محكمة مختصة بمكافحة الإرهاب بدلاً من محكمة مختصة بالمخالفات المالية، فحتى فيما لو ثبتت التهمة، فإنه لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالإرهاب.

ولو كانت هذه الحيلة نجحت هذه المرة، لكان من اليسير إقناع التونسيين بالمؤامرة المزعومة التي تحدث عنها سابقا حين قال: "لا علاقة لي إطلاقاً بنقص المواد الغذائية الأساسية، فثمة مؤامرة تحاك في البلاد لإحداث النقص في المواد، وتلك القوى السوداء تتآمر على الطيبين من أمثالكم وأمثالي".

تلك هي الطريقة التي يفكر بها "قيس سعيد" ويتحدث بها إلى الناس الذين انتخبوه. وهم كاذب ومتنصل من المسؤولية بالنظر إلى عمق الفقر والبطالة في البلاد، لكن التونسيين الذين يصدقونه تتناقص أعدادهم يوما بعد يوم.

النقابات هي الهدف التالي

في غضون ذلك، تتعافى حركة "النهضة" يوما بعد يوم، ويعود أعضاؤها إليها تدريجيا، وتتزايد مبادرات لم الشمل، ويبدو "الغنوشي" مستعدا لفترة ثالثة من السجن، حيث سجن من قبل في عهد "بورقيبة" و"بن علي".

وسيكون سجن "الغنوشي" رسالة لجميع الأحزاب السياسية بأنه لا يوجد مجال للتعددية السياسية. ويقول مساعدو "الغنوشي" المقربون إن ذلك سيعزز "النهضة" بدل أن يسحقها.

كما لن تفلت "جبهة الخلاص الوطني" التي شكلها الإسلاميون بالتعاون مع 9 أحزاب ومنظمات مجتمع مدني. وبالرغم أن زعيمها "نجيب الشابي" ليس إسلامياً، إلا أنه يملك التمييز بين الاختلافات السياسية والديمقراطية نفسها.

وبعد التخلص من زعيم "النهضة" سيكون هدف "سعيد" التالي هو النقابات المهنية.

وفي ظل إجمالي دخل قومي بلغ 45 مليار دولار في عام 2021 وعجز يقدر بـ36 مليار دينار (حوالي 12 مليار دولار) في السلع الأساسية، فإن المالية العامة في تونس ستفشل قريبًا جدًا.

وبالرغم أن هناك بعض الأموال التي تأتي من الخليج والاتحاد الأوروبي، فإن أمل "سعيد" الوحيد هو التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهي اتفاق من المؤكد أنه يتطلب ثمناً مرتفعاً مقابل الإنقاذ، كما حصل في مصر. وسوف يطلب صندوق النقد الدولي رفع الدعم وتقليل عدد العاملين في القطاع العام.

وقد واجه "نورالدين طبوبي" الذي يشغل منصب الأمين العام لـ"الاتحاد العام التونسي للشغل"، معركة في المحاكم بسبب محاولات نزع الشرعية عن ولايته الثالثة. ويذكر أن "الاتحاد العام التونسي للشغل" كان حذرًا في موقفه بشأن الدستور، حيث أدانه لكنه سمح للأعضاء في الوقت نفسه بالتصويت "وفق ما يمليه عليه ضميرهم".

وسيكون من المستحيل معرفة عدد التونسيين الذين تجاوبوا مع دعوات المقاطعة وعدد الذين اختاروا البقاء بعيدًا عن مراكز الاقتراع. وتعد الساحة مهيأة الآن لصدام هائل بين سلطان تونس الجديد والنقابات، والتي تعد الحركة الجماعية الوحيدة الأخرى المنظمة بعد "النهضة".

ولا ينتظر المؤيدون للديمقراطية في تونس كلمة دعم من المعسكر الذي يدعي أنه معقل الديمقراطية؛ أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقد قاموا بالتعبير عن قلقهم إزاء ما يفعله "سعيد"، لكنهم تجنبوا وصفه بالانقلاب. لقد اتبعوا نفس ما فعلوه في مصر وكانوا سيفعلون الشئ نفسه في تركيا لو نجحت محاولة الانقلاب هناك.

لقد أثبتت تونس مجددًا مدى فشل جيرانها الأوروبيين الذين لا يمانعون سحق الربيع العربي الذي تعد تونس آخر براعمه الذابلة.

المصدر | ديفيد هيرست | ميدل إيست آي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

تونس استفتاء تونسد انقلاب تونس قيس سعيد النهضة الغنوشي الاتحاد العام التونسي للشغل نقابات تونس الربيع العربي نجيب الشابي جبه الخلاص نماء تونس صندوق النقد الدولي استفتاء تونس الاتحاد العام للشغل

تزايد السخط ضد قيس سعيد ومحاولات تفكيك مؤسسات الدولة باستفتاء

المعارضة في تونس تستيقظ.. هل يمكن أن تنقذ البلاد من هاوية الاستبداد؟