تضخم ووصاية خارجية وتفاقم ديون.. مصر بعد القرض الجديد لصندوق النقد

الأحد 30 أكتوبر 2022 09:56 ص

"نعرف أنه لما ترتفع قيمة الدولار ترتفع أسعار كل شيء وغلاء الأسعار دمرنا نفسيا".. هكذا عبرت سميرة (اسم مستعار)، عن صدمتها جراء القرارات الأخيرة التي أصدرها البنك المركزي الاعتماد على نظام سعر مرن لصرف قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، استنادا لآلية العرض والطلب في السوق.

وفي اجتماع استثنائي عقد الخميس، أعلن المركزي المصري في قرار مفاجئ زيادة أسعار الفائدة الرئيسية 200 نقطة أساس خلال اجتماع لجنة السياسات النقدية، تزامن ذلك مع إعلان البلاد التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي.

وتوصلت مصر إلى اتفاق على مستوى الخبراء للحصول على قرض يقدر بـ3 مليارات دولار من الصندوق، كما ستتلقى 5 مليارات دولار من الشركاء الدوليين، بالإضافة إلى مليار دولار من صندوق الاستدامة الذي تم إنشاؤه حديثًا.

وبرر المركزي المصري القرار بأن "الاقتصاد العالمي واجه العديد من الصدمات والتحديات التي لم يشهد مثلها منذ سنوات، مشيرا إلى "تداعيات جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، ما تسبب في الضغط على الاقتصاد المصري، حيث واجه تخارجا لرؤوس أموال المستثمرين الأجانب، فضلا عن ارتفاع في أسعار السلع".

وبعد ساعات من رفع سعر صرف الدولار، تجاوز الدولار الواحد حاجز 23 جنيها مصريا، ليفقد الجنيه نحو 40% من قيمته أمام الدولار منذ مارس/ آذار الماضي، قبل أن يصل إلى 24 جنيها في بداية تعاملات الأحد، وسط توقعات بأن يرتفع إلى 25 جنيها للدولار الواحد.

ويرى الرئيس السابق لمجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية "مدحت نافع"، أن "خفض قيمة الجنيه هو قرار كاشف ولا يبني واقعا جديدا".

ووصل سعر الدولار في الفترة الماضية في السوق السوداء إلى أكثر من 23 جنيها، في وقت لم يكن شراؤه سهلًا للمواطنين في البنوك بالأسعار الرسمية الأقل.

ويضيف "نافع" أنه يتوقع صدمة تضخمية مؤقتة في الأسواق المصرية على أن يتراجع التضخم بعد فترة قصيرة، خاصة إذا استقبلت مصر التدفقات النقدية للقروض أو استثمارات جديدة للاستفادة من تحرير قيمة الجنيه، وزاد الاستثمار في البورصة.

وشهدت الأسواق المصرية، خلال اليومين الماضيين، هزات زلزالية عنيفة، واختفى الدولار من السوق السوداء، حيث فضل الصرافون الانتظار إلى ما ستسفر عنه توابع الزلزال الذي حط على الجميع فجأة.

وأوقف موردون إخراج البضائع من مخازنهم، وامتنع أغلبهم عن تسليم منافذ التوزيع للشركات المتعاملة معهم، لحين استقرار السوق ومعرفة سعر الدولار خلال الأيام المقبلة.

واعتذرت شركات تجارية كبرى عن توفير أجهزة كهربائية ومنزلية، موجودة بالعروض، مؤكدة عدم قدرتها على التصرّف بها، إلى حين الاتفاق مع كبار الموردين على البيع وفقاً للسعر الجديد للدولار غير المعلوم حالياً.

واعتاد التجار والموردون على تبادل السلع المستوردة والتي بها نسبة عالية من مكونات الإنتاج الأجنبية، على سعر ائتمان يقدر فيه الدولار بنحو 23 جنيهاً، في معظم السلع، يصل إلى 25 جنيهاً في بعض السلع بطيئة التصرف، أو النادرة في الأسواق.

وارتفعت أسعار الدقيق الحر بالأسواق والموجه لأصحاب المخابز الخاصة ومصانع المعجنات من 12 إلى 16 ألف جنيه للطن.

كما لجأت الأفران إلى تخفيض وزن الرغيف المباع بجنيه، للهروب من التسعيرة الجبرية المحددة من وزارة التموين.

وكانت الحكومة تعهدت بحزمة مساعدات اجتماعية تبلغ 67 مليار جنيه (2.89 مليار دولار)، وزيادة الحد الأدنى للأجور إلى 2700 جنيه (166 دولارا) وحد الإعفاء الضريبي إلى 30 ألف جنيه (1300 دولار)، وعدم رفع أسعار الخبز والوقود والكهرباء حتى 30 يونيو/حزيران المقبل.

إضافة إلى  تقديم حزمة مساعدات للأسر تمتد من علاوة اجتماعية بقيمة 300 جنيه (13 دولارا) للموظفين وأرباب المعاشات وللحالات الأشد فقراً، تتراوح ما بين 100-300 جنيه (4.3-13 دولارا) حتى نهاية العام المالي الحالي.

يشار إلى أن نحو ثلث المصريين يعيشون تحت خط الفقر، بحسب إحصاءات رسمية.

ويقول مراقبين إن حديث الحكومة عن القرارات التي بشرت بها المواطنين قبل "صدمة الخميس" يدفع في العادة التجار إلى رفع الأسعار، منوهين بأن التجار أصبحوا أكثر استعداداً الآن لرفع الأسعار، بحجة رفع الدولار.

ويتوقع المراقبون، عدم تحرك أسعار السلع الغذائية، الموجودة في الأسواق خلال اليومين الماضين، مع توقع صغار الموزعين للدجاج واللحوم والبيض والأجبان أن يحدث التغيير في السعر في نهاية الأسبوع الحالي، بعد استلام كبار التجار الدفعات الجديدة من طلبات الموزعين بالأحياء والأسواق.

ويقول رئيس جمعية "مواطنون ضد الغلاء" (غير حكومية) "محمود العسقلاني"، إن خفض الجنيه "سيشعل الحرائق في الأسواق"، في وقت ينتظر فيه الناس تقديم تخفيضات، وأن تمد الحكومة والأحزاب يدها لتوفير ودعم السلع الرئيسية، عبر منافذ مختلفة، حتى لا يقع الناس فريسة للغلاء وتحكم المستغلين.

وينوه رئيس شعبة الأدوات الصحية بغرفة القاهرة التجارية "فوزي خليل"، في بيان بأن "ارتفاع سعر الدولار إلى 23 جنيهاً دفعة واحدة، سيؤثر سلباً على جميع خامات التصنيع والأدوات المستوردة، وسينعكس ذلك على سعر المنتجات في الأسواق خلال الفترة المقبلة".

ويتوقع أعضاء بالغرف التجارية حدوث طفرة جديدة في الأسعار، تتراوح ما بين 15 إلى 20%، خلال الأسابيع المقبلة.

ولجأت الماركات الدولية إلى تقييم مبيعاتها بالدولار، ورفعت أسعار السلع والشحن الواردة من الخارج، وفقاً لأسعار الجنيه المتراجع. وزاد سعر الذهب في الأسواق المحلية بنحو 80 جنيهاً (3.46 دولارات) في المتوسط للجرام عيار 21 الأكثر مبيعاً في مصر.

وتلفت عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع "سمر عادل"، إلى أن تبعات القرار ستكون مزيدا من التضخم والركود والأعباء المالية على المواطنين، وتقول: "إن لم يزد التصدير والسياحة ستتدهور العملة المصرية بشكل أكبر"، حسب تعبيرها.

وتوضح أن "خفض قيمة العملة ليس مفيدا في دولة مثل مصر، تستورد أكثر مما تصدر، على عكس دولة مثل الصين".

فيما يتوقع مدرس الاقتصاد بالجامعة الأمريكية "هاني جنينة"، أن تصل مدة الآثار التضخمية إلى سنة ونصف السنة.

لكن "جنينة" يلفت إلى أن تلك التبعات التضخمية هي أقل مما كانت ستصبح عليه إذا لم تتخذ الإجراءات الأخيرة، واستمر شح الدولار في السوق المصري.

ويوضح: "شح الدولار يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وإغلاق المصانع وقلة الدخل، بينما سيزيد توفر الدولار من دخول المواطنين ما يمكنهم من مواجهة التضخم".

ويتابع "جنينة" قائلًا: "لو كانت الحكومة مستمرة في الحفاظ على سعر صرف الدولار القديم فسوف تستنزف احتياطيها النقدي لأنها تعوض فرق السعر".

أما أستاذ الاقتصاد بجامعة المنصورة "رضا عبدالسلام"، فيصف التراجع المفاجئ للجنيه بــ"الزلزال" الذي يثير مخاوف من توجه الاقتصاد والبلد إلى "أجواء مجهولة"، في "ظل استمرار اللجوء إلى حل مشاكلنا عبر تخفيض العملة، وعدم الالتفات إلى ضرورة وضع سياسات اقتصادية ناجعة تفك ارتباط مصر بالدولار، وتدعم التصنيع وزيادة الإنتاج".

ويؤكد أن الحلول التي طرحها المركزي، كشفت عن اتفاق مسبق مع صندوق النقد، على تلك القرارات، التي تطلب إعلانها قبل ساعات من موافقة الصندوق على إقراض مصر 3 مليارات دولار.

كما يبدي "عبدالسلام" دهشته من أن ينسق تلك السياسات من شاركوا من قبل في صفقات فاسدة لبيع القطاع العام، وأهدروا موارد الدولة.

ولكن الملفت وفق رأي الخبراء، تضمين الاتفاق الموقع مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة تمويل جديدة، شرطا غير مسبوق، يتلخص في لعب شركاء مصر الدوليين والإقليميين دورا حاسما في تسهيل تنفيذ سياسات السلطات وإصلاحاتها.

ولم توضح الحكومة المصرية أو صندوق النقد من هم الشركاء وما هو دورهم، إلا أن محللين اعتبروا ذلك تدخلا في شؤون البلاد، ووصاية عليها.

في تفسيره لهذه الفقرة يقول استشاري تمويل وتطوير المشروعات والأوقاف الاستثمارية "علاء السيد": "هذا معناه أشبه ما يكون بتأسيس صندوق لديون مصر تشرف عليه الدول والمؤسسات التي أقرضت مصر التي تعد ثاني أكبر دولة مقترضة في العالم من الصندوق".

ويوضح: "هذا معناه تحكم هذه الدول التي أقرضت مصر بطريقة مباشرة وغير مباشرة والسماح بتدخلها في السياسات والإجراءات الحكومية والمالية وفرض وصاية على إدارة المشهد، وهذا سيذهب بنا إلى حصول تلك الدول والمؤسسات على أصول بدلا من النقود إذا لم تستطع مصر سداد تلك القروض".

ولا تملك الحكومة المصرية أي رؤية واضحة لإصلاح هيكل الاقتصاد المصري وتحويله إلى اقتصاد إنتاجي.

ويضيف "السيد": "هذا يعني أن السياسات المالية لم تعد بيد الحكومة والإنفاق سيكون بحساب، وستكون الأولوية لسداد الديون وفوائدها، بمعنى أوضح أن الإيرادات بالكامل لن تكون تحت تصرف وزارة المالية، وهذا يشكل فقدا للسيادة ويصبح الشعب تحت رحمة الوصاة".

ويتابع: "هذا ما لم يكن يتوقعه أحد، لكن سوء الإدارة والتوسع في الاقتراض وعمل مشاريع لا عائد منها أوصلنا إلى هذه النتيجة الكارثية والمواطن هو المتضرر الأول وسينعكس كل هذا على الأوضاع الداخلية وفي كافة المجالات".

ويلفت إلى أن مصر وصلت إلى هذا الحال، بعدما علم صندوق النقد أن "سوء إدارة الأموال صارت آفة وسياسة خاطئة لدى النظام، واعتياده الحصول على قروض دون أن يكون هناك مراقبة أو محاسبة لتلك السياسات غير الرشيدة".

ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، تراجعت موارد النقد الأجنبي لمصر من الصادرات والسياحة وخرج نحو 20 مليار دولار مما تعرف بـ"الأموال الساخنة".

ووصل الدين الخارجي لمصر إلى نحو 156 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران الماضي.

ويعد نقص الدولار المطلوب في مصر هو عرض لمشكلة أساسية تتمثل في ضعف ما يسمى بالاستثمار الأجنبي والمحلي الحقيقي الذي يعتمد على الزراعة والصناعة والتصدير.

وإلغاء الاعتمادات المستندية لتمويل الاستيراد الذي قرره البنك المركزي المصري سيساعد التجار والصناعيين الذين لطالما شكوا في السابق من تقييده للعمليات التجارية، وتسببه في نقص المواد الخام المستوردة.

وسجل الاحتياطي النقدي لمصر نحو 33 مليار دولار أمريكي في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي.

ويدرس البنك المركزي إطلاق مؤشر جديد للجنيه المصري يقيس مستوى العملة المصرية أمام عدد من العملات الأجنبية والذهب، دون التقيد بالدولار وحده.

ويهدف المؤشر الجديد بعد اعتماد سعر صرف مرن، إلى خفض تأثر سعر صرف الجنيه المصري بتطورات الدولار الأمريكي، واستمرار تراجع العملة المحلية إلى مستويات قياسية.

وكانت التوقعات تشير إلى حدوث تخفيض أكبر للجنيه المصري ما بين 10% و14% خلال الفترة المقبلة إن لم يكن إعادة تحرير سعر الصرف في خطوة مشابهة لما حدث في نهاية عام 2016.

وتعتقد الحكومة المصرية، حسبما جاء على لسان رئيسها "مصطفى مدبولي"، أن تطوير مؤشر قياس قيمة الجنيه المصري سوف يعكس قيمته الحقيقية.

بينما يرى الخبير الاقتصادي "إبراهيم نوار"، أن إطلاق مثل هذا المؤشر لا جدوى من ورائه سوى الهروب إلى الأمام، ويقول: "للأسف كلام حسن عبد الله (محافظ البنك المركزي) غير مسؤول ولا يصدر أبدا عن محافظ بنك مركزي في أي مكان في العالم".

ويتابع أن شرط إيجاد هذا المؤشر أن تكون لدى البلد قاعدة تصديرية قوية، وسيولة في العملات الأجنبية، وسوق مالية متطورة، وثقة دولية، واحتياطي عملات أجنبية قوي، واستقرار في السياسات النقدية والتشريعات.

ويستدرك "نوار" بأن هذه الشروط "كلها لا تتوفر للجنيه المصري، وسيخلق حالة من الفزع في سوق الصرف وفي التجارة الخارجية، وسيؤدي لانخفاض جديد في قيمة الجنيه وبالتالي ارتفاع في الأسعار".

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الجنيه الدولار صندوق النقد مصر ديون تضخم سعر مرن سعر صرف

مصر تدرس تحولا تاريخيا بشأن سعر صرف الجنيه والدولار

مصر تستبق مظاهرات 11 نوفمبر باعتقال واستدعاء ناشطين

توقيف بالشوارع وتفتيش هواتف.. حملة مصرية قبل مظاهرات 11 نوفمبر

رغم انهيار الجنيه.. مسؤول بصندوق النقد يشيد بقرار رفع الفائدة في مصر

إيكونوميست: ديون مصر تنذر بمواجهة بين السعودية وصندوق النقد

"امتى هتفرح مصر؟".. 20 إجابة صادمة تعكس ألما ممتزجا بالأمل

قروض مصر تتوالي.. فلماذا تفشل كل مرة في الاستفادة منها؟

أعلى مستوى خلال 5 سنوات.. التضخم في مصر يرتفع إلى 19.2% في نوفمبر