أزمة الجنيه المصري تتفاقم.. والبسطاء يدفعون الثمن

الأربعاء 17 مايو 2023 09:56 ص

رضخت الحكومة المصرية جزئيا لمطالب صندوق النقد الدولي، وقررت مرة تلو أخرى تعويم عملتها المحلية (الجنيه) أمام الدولار، حتى بات المواطن هو الضحية الأبرز ويدفع الثمن الأكبر، بعد أن أغرقه التعويم في بحر من الأزمات الاقتصادية والمعيشية والمجتمعية، مع انهيار العملة المحلية، ووصول التضخم لمستويات تاريخية.

ومع أنين المصريين ومعاناتهم من صعوبات المعيشة، وارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات وتفاقم الدين العام، بات السؤال الذي يشغل بالهم صباح كل يوم: " "الدولار وصل كام؟"، ما يعكس حالة الإزعاج والقلق التي أصبحت تسود المصريين خاصة من أبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة، مع الانخفاضات الحاد المتتالية في قيمة الجنيه المصري، وتوقعات الخفض الجديدة.

وأدت سلسلة من التخفيضات منذ مارس/آذار 2022، إلى خفض قيمة الجنيه إلى النصف مقابل الدولار، لكنها فشلت في تعزيز تدفقات النقد الأجنبي.

يشار إلى أن الدولار الأمريكي يساوي 30.90 جنيها مصريا بالسعر الرسمي، لكن شح العملة الأجنبية خلق سوقا موازية مجددا، بلغ السعر الموازي فيها أكثر من 37 جنيها للدولار الواحد.

ويتوقع الاقتصاديون وقادة الأعمال حدوث تخفيض جديد في قيمة العملة، لكن الحكومة تؤجل هذه الخطوة، حسب "فاينانشيال تايمز".

ولطالما كانت الحكومات المصرية مترددة في السماح لقوى السوق بتحديد قيمة الجنيه، مفضلة توظيف موارد النقد الأجنبي لدعم قيمته والحفاظ على استقراره مقابل الدولار، والهدف من ذلك هو تجنب صدمات التضخم الناجمة عن الانخفاضات الحادة في العملة المحلية.

أزمة استثمار

ولكن هذا الغموض، دفع رواد أعمال مصريون من التحذير من خنق الأعمال التجارية، وإعاقة قدرتهم على التخطيط والاستثمار.

يقول أدهم نديم، الذي يرأس شركة "نديم" العائلية لتصنيع الأثاث لـ"فايننشال تايمز"، إنه يواجه مشكلات في استيراد مدخلات التصنيع الضرورية كالمفصلات والإكسسوارات والدهانات.

ويضيف: "إذا كنت أخطط للشراء في غضون شهرين مثلاً، فسيعطيني الجميع أسعاراً تخمينية بناءً على توقعهم لسعر الدولار في السوق السوداء مستقبلاً.. وستصبح المشكلة أكبر إذا كان المشروع يمتد لـ6 أو 10 أشهر".

بينما تحدّث المستثمر المصري الرائد في السياحة والعقارات سميح ساويرس إلى قناة "العربية" قبل أيام، قائلاً إن وضع سعر الصرف يُثنيه عن مواصلة الاستثمار في مصر.

وتعرض الاقتصاد المصري المتعثر بالفعل، لمزيد من الاضطرابات بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا؛ ما أثر على قطاع السياحة، وتسبب في ارتفاع أسعار سلع أساسية ودفع مستثمرين أجانب إلى سحب نحو 20 مليار دولار من الأسواق المالية في مصر، وأرسلوها إلى الملاذات الآمنة، حسب الصحيفة.

وتدخلت دول الخليج لحل الأزمة في مصر من خلال ودائع بقيمة 13 مليار دولار ومشتريات أصول أخرى بقيمة 3.3 مليارات دولار، لكن مستثمري المحافظ المالية ظلوا غير منجذبين للسوق المصري، وواجه القطاع الخاص صعوبة في تمويل الواردات.

كما أن دول الخليج لجأت في الأشهر الأخيرة نحو سياسة ربط الاستثمارات المالية بإصلاحات هادفة، وجهود لتحقيق الاستقرار للعملة المصرية؛ وهو ما تسبب في تعثر توجيه استثماراتها لمصر.

وتمكن الاقتصاد المصري من الصمود بفضل صندوق النقد الدولي، الذي وافق العام الماضي على إقراض القاهرة 3 مليارات دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة، لكن خبراء الاقتصاد يقولون إن خطة الإنقاذ هذه، ليست كافية لسد فجوة التمويل التي ستواجهها مصر في السنوات المقبلة، حيث تسعى إلى سداد ديون تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.

وللمساعدة في تغطية الاحتياجات التمويلية الفورية للبلاد، كلف القادة المصريون صندوق الثروة السيادية بجمع 2.5 مليار دولار بحلول يونيو/حزيران المقبل، وهو هدف صعب المنال.

وأمام كل ذلك، تواجه مصر معضلة صعبة لتحديد مسار الجنيه الذي يضغط على اقتصاد البلاد، ويقفز بمعدلات التضخم التي لم تهدأ حتى بعد أن رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة 1000 نقطة أساس العام الماضي.

وتتمثل المعضلة في موازنة السلطات المصرية بين تكاليف خفض قيمة العملة والانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، مقابل المخاطر الاقتصادية المحتملة من استمرار السوق الموازية، حسب "جولدمان ساكس".

وتشترط السلطات المصرية تحسين سيولة العملات الأجنبية في السوق قبل التحرك نحو سعر صرف مرن، وفق تقديرات البنك الأمريكي، الذي أشار إلى ترقبه إحراز تقدم في بيع أصول الدولة (عبر برنامج الطروحات الحكومية) قبل إجراء أي تعديلات أخرى على سعر الصرف.

ويقول خبراء الاقتصاد إن البنك المركزي أراد بناء احتياطي من العملات الأجنبية قبل الانتقال إلى سعر الصرف المرن.

وكشفت الحكومة في فبراير/شباط عن قائمة تضم 32 شركة حكومية تخطط لبيعها، لتفتح الباب أمام مشاركة القطاع الخاص عبر بيع حصص الأقلية بشكلٍ أساسي.

تداعيات التعويم

لكن التقارير أفادت بأن ذلك البرنامج لا يزال معلقاً، في ظل الخلافات حول سعر الصرف المستخدم في تقييم الأصول المصرية، وكذلك الحجم الصغير للعديد من الحصص المعروضة التي لن تمنح المشترين سيطرةً إدارية.

المزيد من التأخير على هذا الصعيد، سيجعل تجنب تعويم قاس للجنيه أمراً أكثر صعوبة، وفق تقرير "جولدمان ساكس" الذي أعده فاروق سوسة، محلل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مشيراً إلى أن الضغط من صندوق النقد الدولي من المحتمل أن يؤثر على الانتقال إلى مزيد من المرونة في سوق العملة، إذ إن الانتهاء من المراجعة الأولى في إطار البرنامج الحالي مع الصندوق يعتمد جزئياً على الأقل على حدوث التعويم.

وكان من المفترض في مارس/آذار الماضي، إجراء مراجعة القرض الذي اتفقت عليه مصر، لكنها تعثرت بسبب عدم تنفيذ مصر شروط الصندوق، وأُجلت إلى يونيو/حزيران المقبل.

فيما يعني استمرار الأوضاع الحالية دون تغيير، تحول تدفقات العملات الأجنبية بعيداً عن السوق الرسمية، ويشمل ذلك تحويلات المصريين المغتربين في الخارج.

ووفق بيانات رسمية، سجلت تحويلات المصريين بالخارج خلال العام الماضي، أول انخفاض سنوي منذ عام 2015، لتصل إلى 28.3 مليار دولار، بانخفاض قدره 3.6 مليارات دولار بلغت نسبته 10% عن العام 2021.

ويتحدث طبيب جراحة العظام أحمد أبوالمجد، الذي يعمل في ألمانيا، لموقع "الحرة"، عن تراجعه في الفترة الأخيرة عن إرسال المبالغ المالية لعائلته كما اعتاد في الأعوام السابقة؛ بسبب رفض البنك تسليم هذه المبالغ لأهله قبل تحويلها للجنيه المصري وبسعر البنك، الذي يعتبر أقل بكثير من الرقم الذي يتم تداوله به في السوق السوداء.

يشار إلى أن تداول العملة الأجنبية في السوق السوداء بقيمة أعلى من البنوك، ستؤدي إلى "تشوهات اقتصادية تجعل التخفيضات الدورية لقيمة الجنيه أمرا مرجحا للغاية على المدى المتوسط، بغض النظر عما إذا كانت السلطات ستنتقل إلى نظام سعر صرف مرن بالكامل".

وسيسمح صعوبة الوصول إلى عملات أجنبية عبر القنوات الرسمية لبعض الفئات بالحصول عليها دون الآخرين، ما يشوه المشهد التنافسي، ويثبط الاستثمار المحلي والأجنبي أيضاً.

لكن التداعيات الأكبر جراء ما تشهده البلاد، هو مضاعفة الأعباء المثقلة على كاهل المصريين، خاصة مع ارتفاع الأسعار بمعدلات غير مسبوقة.

وزادت أزمة العملة من الضغط على القطاع الخاص، الذي يعاني بالفعل من ارتفاع التضخم، الذي بلغ 31.5% في أبريل/نيسان، وسعر فائدة وصل 19%.

وواجه المواطن، ارتفاعاً حاداً في الأسعار طاول 10 قطاعات أساسية، وهي السلع والوقود والنقل وفواتير الكهرباء والمياه والسكن والعلاج والاتصالات ومصاريف التعليم ورسوم الخدمات.

يقول تحليل بمجلة "ذي ناشينونال إنترست"، إن "المصريين باتوا يعانون من صعوبة ظروف المعيشة بسبب الغلاء وانخفاض قيمة الجنيه".

وهو الأمر ذاته الذي ذهبت إليه ورقة بحثية صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (غير حكومية)، صدرت أواخر مارس/آذار الماضي بعنوان "كيف يعيش الفقراء في ظل الغلاء.. أثر ارتفاع التضخم وتخفيض قيمة الجنيه على حقوق المصريين".

وجدت الورقة أن هذين العاملين "يُسببان رفع تكاليف المعيشة بشكل يمس حقوق المواطنين"، حتى إنها وصفت الأمر بـ"العواصف" التي تطيح المستوى المعيشي للمصريين، موصيةً باتخاذ إجراءات لتحسين الوضع، أبرزها "السعي لنمو مبني على إنتاج سلع وخدمات حقيقية".

الفقراء يدفعون الثمن

اللافت أن هذا ما تتفق عليه التقارير الدولية المتباينة، التي طالما أشادت في السابق بمعدلات النمو التي تسجلها مصر أثناء اتباعها السياسات الاقتصادية التي قادت إلى الوضع الحالي.

وتستعرض الورقة تأثير موجات الغلاء على الفقراء، بصورة تؤدي إلى رفع تكاليف المعيشة، بشكل يمسّ مباشرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وفرص حصولهم على الغذاء الكافي والخدمات الأساسية، ويزيد من حجم اللامساواة المرتفعة فيما يتعلق بالدخل والثروة.

وتشير الورقة إلى زيادة معدلات الفقر وقلة الغذاء، مدفوعة بانخفاض العملة وزيادة معدلات الأسعار وتكلفة المعيشة؛ بما يمس حقوقهم الاجتماعية والسياسية وفرص حصولهم على الغذاء الكافي الذي يستهلك نحو 50% من الدخل لدى الطبقات الفقيرة، ويحرمهم من الخدمات الأساسية، ويعمق اللامساواة.

وتظهر تراجعا في استهلاك 85% من الأسر من تناول اللحوم، كما خفضت 75% من استهلاكها البيض، و73% قللت من استهلاك الدواجن، و61% خفضت من تناول الأسماك و60% قلصت نفقاتها على شراء الألبان، بسبب ارتفاع الأسعار.

وتلفت إلى استبدال الأسر الفقيرة اللحوم والحبوب والخبز، التي وصلت نسبة الزيادة في أسعارها إلى 61.5% في فبراير/شباط الماضي، بالبطاطس والمكرونة، للحصول على عناصر غذائية بأقل تكلفة.

وفق لتقديرات البنك الدولي، فإن ثلث سكان مصر البالغ عددهم 104 ملايين يعيشون تحت خط الفقر بينما ثلث آخر "معرّضون لأن يصبحوا فقراء".

تقول عاملة التنظيف عبير عبدالصمد، (أم آدم)، لموقع "الحرة"، إنها تعاني بشدة من الارتفاع اليومي للأسعار، وفي المقابل لا يستجيب أصحاب المنازل التي تعمل فيها لطلبها بزيادة المبلغ اليومي الذي تتقاضاه بسبب تأثرهم أيضا بالوضع الاقتصادي.

وتحدثت أم آدم (39 عاما)، عن ظروفها المعيشية الصعبة، إذ أنها تتحمل مسؤولية الإنفاق على أولادها الثلاثة الذين لا يزالون في مراحل تعليمية، بسبب مرض زوجها بالقلب، ما يتطلب منها كذلك توفير تكلفة الدواء الباهظة.

وتشير إلى أن التأمين الطبي التابع للحكومة لا يوفر لزوجها، الذي أصبح طريح الفراش، سوى أدوية محدودة لا تكفي لعلاجه، مشيرة إلى أن باقي الأدوية تتكلف آلاف الجنيهات شهريا.

وتحدثت عن ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، بداية من المواصلات، ومرورا بالطعام والملابس، ووصولا إلى إيجار الغرفة التي تعيش بها مع أسرتها، والتي بلغ سعرها 900 جنيه شهريا، لافتا إلى أن الدعم الحكومي لبعض السلع التموينية أصبح لا يساوي شيئا، بعد ارتفاع أسعار هذه المنتجات في الأيام الأخيرة.

كما لم تترك موجة الغلاء وارتفاع الأسعار للمحاسب أحمد حسن، خيارا سوى "تقليل النفقات" حتى يتمكن من  تلبية احتياجات أسرته  المؤلفة من ثلاث أطفال وزوجة تعمل ربة منزل.

وفي ذلك، يقول حسن لـ"دوتشيه فيله عربية": "بدأنا الاقتصار في كل شيء، فعلى سبيل المثال بدل شراء 3 كيلوجرامات من الأرز، أصبحنا نشتري على قدر الاستخدام اليومي.. كيلو  أو نصف كيلو أرز، وتوقفنا عن شراء أنواع مختلفة من الجبن إذ أصبحنا نشتري نوعا واحدا".

لكن المحاسب الذي يبلغ عامه الـ40، يؤكد أن خيار ترشيد النفقات أو "الاقتصار"، على حد وصفه، لا يمكن أن ينطبق على كل شيء، مضيفا: "للأسف لا يمكن التوقف عن شراء كل شيء فهناك على سبيل المثال سلع ومواد غذائية ضرورية ليس لنا وإنما لأطفالنا".

ومع توقعات بمضي الحكومة المصرية قدما في إصلاحات اقتصادية مؤلمة جديدة، أصبح حسن في حيرة حيال ما يحمله مقبل الأيام، وتأثير هذه الإصلاحات على أسرته.

ويقول: "لا يمكننا تدبير أو ادخار أي أموال؛ لأن كل الفلوس تذهب على مصروف المنزل.. أحاول جاهدا الحفاظ على مستوى معيشي جيد لأطفالي بقدر الإمكان، لكن هذا الأمر يتطلب إنفاقا أكثر، وهو غير متاح".

أما إنجي التي تعيش في منطقة راقية من القاهرة، والتي لم تكشف عن لقبها، فتقول لـ"فايننشال تايمز" إنها تجنبت زيارة طبيب الأسنان لتوفير المال، وتنتظر بدلاً من ذلك شفاء ألم أسنانها بمرور الوقت أو المسكنات.

وتضيف: "إذا ذهبت، فسوف يتعين علي دفع ثمن الأشعة السينية و400 جنيه للرحلة هناك والعودة... الآن أحسب تكلفة كل رحلة أقوم بها".

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر الجنيه المصري فقراء تعويم الجنيه استثمار الفقر

كريدي سويس يتوقع انخفاضا جديدا في سعر صرف الجنيه المصري.. كم سيبلغ؟

توقع تأجيل التعويم.. سيتي جروب: التوقعات التشاؤمية للاقتصاد المصري وصلت إلى ذروتها جزئياً