أحجية التاريخ السياسي: الجذور «البنيوية» لعدم الاستقرار في دول الشرق الأوسط

الأربعاء 6 أبريل 2016 04:04 ص

غالبا ما يشير المعلقون على الفوضى التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط إلى اتفاقية سايكس بيكو بوصفها قضية أساسية في هذا الصدد. غني عن القول أن الحدود المصطنعة التي وضعها اتفاق الحقبة الاستعمارية كانت سببا للصراع العرقي والطائفي في المنطقة. في مرحلة ما، سوف يتعين إعادة ترسيم هذه الحدود، ومن الواضح بشكل كبير أن هذه العملية سوف تكون مؤلمة. نحن بحاجة إلى أن ننظر فقط في الصراع المشتعل في سوريا والدعوات المتزايدة لتقسيمها من أجل أن نفهم ذلك.

لكن الحدود المصطنعة ليست سوى جزء من مشكلة الشرق الأوسط. على نفس القدر من الأهمية، وعلى الرغم من كونها أقل إدراكا بشكل كبير، يأتي إرث الإمبراطورية العثمانية والطابع الدائم الذي خلفته على نمط «تركيز القوة» في منطقة الشرق الأوسط. حكمت الدولة العثمانية الجزء الأكبر من المنطقة قبل الدولة القومية الحديثة. في ذروتها، امتدت حدودها من شمال إفريقيا إلى المحيط إلى الخليج. ومع ذلك، فإن الحكم العثماني يختلف جذريا عن الحكم الأوروبي المبكر وبالتأكيد عن الحكومات الحديثة التي تلت ذلك، ويرجع ذلك جزئيا إلى واحد من سماته المميزة وهو النظام الملي.

كان النظام الملي أشبه باتحاد ثيوقراطي فضفاض وغير رسمي يضم شبكة من النظم والمحاكم القانونية التي سمحت للأقليات غير المسلمة بإدارة شؤونها دون تدخل من قبل حكامهم العثمانيين. وقد نشأ هذا النظام، بشكل طبيعي في بعض الأماكن وتم استنساخه في أماكن أخرى، كوسيلة لإدارة التعقيدات التي فرضها تنوع الجماعات الدينية داخل الإمبراطورية. تم إعطاء المسيحيين والمسلمين واليهود، على حد سواء، درجة من كبيرة من الحكم الذاتي الديني والثقافي، وتم منح العديد من النخب الدينية مناصب اقتصادية وإدارية عالية في الإمبراطورية.

ومع مرور القرون، قام النظام الملي بتشكيل المجتمعات المحلية والحكومات حول الهوية الدينية. تقاليد السلطات الدينية أصبحت تقاليد مؤسسية في العديد من الأماكن وبدأ الناس يلجؤون لهم على نطاق واسع. وفي الوقت نفسه، فقد تمتعت النخب الدينية بمستوى عال نسبيا من الحكم الذاتي وأصبحوا متأصلين في المؤسسات التي تقع اليوم تحت إشراف الدولة القومية، بما في ذلك هياكل الرعاية القانونية والإدارية والتعليمية والاجتماعية.

في البداية، أثبت النظام الملي كفاءته في حكم رعايا الإمبراطورية العثمانية المتنوعين. ولكن في خلال القرنين الـ19 والـ20، بدأت القوة العسكرية للإمبراطورية في التراجع مقارنة بجيرانها وأصبح حكامها يقفون في موقف دفاعي. تدريجيا، أصبح من الواضح أنه إذا كانت الإمبراطورية العثمانية تود البقاء على قيد الحياة على الإطلاق، فإنه سيتعين عليها أن تتبني بعض الاستراتيجيات المستخدمة من قبل المنافسين الغربيين بغية تنظيم الجيش والمجتمع.

الإصلاحات الناتجة عن ذلك النهج، والمعروفة باسم التنظيمات، كانت تهدف إلى إعادة تشكيل جذري للعلاقة بين الدولة العثمانية وبين رعاياها. في السابق، لم يتم منح المواطنين في الإمبراطورية أية حقوق تتجاوز تلك المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية وتلك الحقوق التي يتم منحها للمجتمعات الملية. ولكن في عام 1839، أعلن السلطان «عبد المجيد» أن جميع مواطني إمبراطوريته، من المسلمين وغير المسلمين، سوف يتمتعون بحقوق علمانية تتجاوز الانتماء الديني أو العرقي أو اللغوي. وبالإضافة إلى هذا النموذج المقتبس من المواطنة العلمانية، فقد قامت التنظيمات بتعريف النظام الملي وإضفاء الطابع الرسمي على الطوائف الدينية المتميزة. وكانت نتيجة هذا التناقض هو أن الإصلاحات التي كانت تهدف أصلا إلى سد الفجوات الدينية، قد عززت من التشققات الموجودة فعليا داخل المجتمع.

الدين والدولة: شركاء أم متنافسون؟

عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية في عام 1923، فإن الهويات التي تم تعزيزها من قبل النظام الملي والتنظيمات فشلت في الذوبان مع بعضها البعض. بدلا من ذلك، فقد تم تصدير هذه الهويات إلى الدول التي ظهرت في أعقاب الإمبراطوريات وخلق عقبات خطيرة أمام جهود بناء الدولة والتحديث. انقسمت النخب الدينية ما بين متنافسين محتملين أو حلفاء أقوياء في محاولة من المسؤولين لتأكيد سلطتهم.

بشكل عام، مالت الدول في المنطقة لمتابعة واحد من ثلاثة مسارات من أجل تعزيز قوتها. الأول غالبا ما كان يحدث في الدول التي فشلت القوى الغربية في احتلالها والتي كان لها دين مهيمن واحد. في هذه الحالة فإن الدولة قد قامت بتضمين مؤسسات الأغلبية الدينية في محاولة من القادة لتركيز سلطتهم. في هذه الحالة كان يتم صهر الميول الدينية والقومية معا لإنتاج ما يعرف ب«الدين الرسمي» وبالتالي إضعاف المؤسسات الدينية، تدجين الخطاب الديني، وجعل السلطات الدينية تابعة للدولة. في تركيا على سبيل المثال، ورغم الفصل الرسمي بين الإسلام والسياسة، فإن اللافتات التي تدعو إلى إصلاحات أتاتورك غالبا ما كانت تعلق بين مآذن المساجد. وقد كانت الإصلاحات العلمانية متعلقة بتأكيد سيطرة الدولة أكثر مما كانت متعلقة بالفصل بين الدين والدولة. على المدى الطويل، كانت هذه الدول أكثر استقرارا ولكنها ولدت سياسات إقصائية وهجرات قسرية استندت إلى حد كبير على الدين. بالنسبة للأقليات الدينية التي تركتها خلفها، فقد تم ترسيخ حالة من عدم المساواة. هذه الدول صارت الآن أكثر تجانسا، وهي غالبا ما تميل إلى التشكك في نوايا الآخرين، وغالبا ما تجنح إلى الاستبداد.

على النقيض، فإن الدول ذات الأغلبية الدينية الصلبة والتي وقعت تحت احتلال استعماري اختارت نهج رفع يديها عن الدين بدلا من ذلك. حاولت هذه الدول تجنب الاحتكاك بالمؤسسات الدينية في إطار سعيها لتعزيز قوتها وفي كثير من الأحيان فقد سعت إلى استيعاب الأقليات الدينية ضمن إطار هذه العملية. ونظر لأنه، في هذه الحالة، فإن الدين لم يتم إضعافه عبر استقطابه من قبل الدولة فإن الدول قد وجدت صعوبة فيما بعد في تأميم المؤسسات الدينية الكبرى. في كثير من الأحيان، وضع القادة الدينيون أنفسهم في موقف المعارضين للدولة في محاولة لتقويض جهود خلق إسلام رسمي موال للحكومة.

الطريق الأخير الذي سلكته دول الشرق الأوسط كان هو الاعتماد بشكل كبير على تحالفات مع الأقليات الدينية في مقابل سحق منافسيهم الدينيين. عادة ما كان يحث ذلك في الأماكن التي تحكمها القوى الاستعمارية وتمزقها الطائفية الدينية. كان المستعمرون الأوربيون غالبا ما يلجؤون إلى الحكم غير المباشر (بهدف منع الانتفاضات القومية) والحفاظ على الحد الأدنى من السلطة من خلال تشكيل شراكات استراتيجية مع الأقليات المحظوظة مثل بعض الطوائف المسيحية في العقد الفرنسي في لبنان. في أكثر الأحيان، كان هذا النظام يفرز أنظمة أقل قمعية ولكن بدوره يفتح الباب للفتن الطائفية والميليشيات السياسية والتدخلات الخارجية. في هذا النمط، غالبا ما تتم عرقلة جميع الجهود الرامية إلى خلق هويات وطنية قوية وإقامة سيادة الدولة، وفي الوقت نفسه يتم تمكين الجهات الفاعلة غير الحكومية ذات الأجندات الدينية.

الدول غير المستقرة تصنع منطقة غير مستقرة

ونظرا لهذه الأنماط التاريخية، فليس من المستغرب أن دول الشرق الأوسط اليوم تبدو عالقة بلا حول ولا قوة بين النقيضين: التطرف الديني والتمييز الذي ترعاه الدولة. كما أنه ليس مفاجئا أن عواقب الحوكمة الداخلية السيئة لم تعد محصورة داخل حدودها.

في جميع الأنواع الثلاثة من الدول، فإن عدم الاستقرار في الداخل يولد حالة من عدم الاستقرار في الخارج أيضا. في النمط الأول، فإن القادة السياسيين غالبا لا يملكون قبضة آمنة على السلطة وعندما يشعرون بالتهديد بشكل خاص فإنهم غالبا ما يتجهون إلى هويات عرقية أو دينية أو وطنية لتعزيز شرعيتهم وتحسين فرصهم في البقاء. هذا التكتيك لا يعمل إلا في إطار دولة واحدة. في الواقع، فإن الهويات المسيسة تقع اليوم في صميم ثلاثة نزاعات حالية في الشرق الأوسط: النزاع بين (إسرائيل) والعالم العربي، والمنافسة بين إيران الشيعية ومنافسيها السنة، والمسألة الكردية الشائكة التي تمتد بين تركيا وسوريا والعراق وإيران.

حتى دول المنطقة المستقرة نسبيا، بما في ذلك تركيا والسعودية وإيران، فإنها قد استغلت الخلاف الديني والعرقي خارج حدودها لكسب النفوذ في الداخل والخارج. نحن بحاجة إلى أن ننظر فقط في الحروب الأهلية الدائرة في العراق وسوريا، أو في أنشطة حزب الله على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، لنرى أدلة على تورط القوى الإقليمية في الصراعات داخل حدود جيرانهم.

بفضل البصمة الدائمة للنظام الملي العثماني وممارسات الحقبة الاستعمارية التي تلت ذلك، فقد أصحبت التنمية السياسية والاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط مقيدة بتقلبات سياسات الهوية. لكن سياسة الهوية هي سيف ذو حدين، أحدهما عكاز يساعد في حكم الدول والآخر هو إسفين يمزقها، وهي سياسات تفلح في منع الاستقرار بأكثر مما تفلح في إنشائه.

المصدر | ستراتفور

  كلمات مفتاحية

الشرق الأوسط سوريا العراق تركيا الاستبداد

خطة تقسيم سوريا .. ماذا بعد أن ينهار وقف إطلاق النار؟

أين أمتنا من ثقافة الاستبداد؟

«واشنطن بوست»: الكويت يهددها الاستبداد والسلطوية .. ولا خوف من التوترات الطائفية

«الغنوشي»: «من يزرع الاستبداد يحصد داعش، والإسلام يكفر بالاثنين معا»

خريطة: ما حققته حدود الدولة العثمانية وفشلت في تحقيقه حدود «سايكس بيكو»