رحيل «داود أوغلو»: هل نشهد تغيرات في السياسة الخارجية التركية؟

الأربعاء 18 مايو 2016 04:05 ص

غالبا ما ينظر إلى الاستقالة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي «أحمد داوود أوغلو» على أنها في المقام الأول محاولة من الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» لتكريس سلطته وتركيز رئاسته. ولكن هذا التفسير يؤصل افتراض عدم وجود قضايا سياسية حيوية تثير الخلاف بين «أردوغان» و«داود أوغلو». وهذا بدوره يستند إلى النظر إلى «أردوغان» بوصفه شخصا يريد تكريس سلطته كغاية مطلقة ونهائية.

ومع التسليم بهذه النظرية، فإن «داود أوغلو»، الشخصية الأكثر اعتدالا والأقل من ناحية الطموح السياسي، كان مجرد بيدق في لعبة «أردوغان».

دراسة الخصائص الشخصية للقادة السياسيين هي هواية معروفة للمحللين. ولكنها تتسبب في انشغال المحللين المحايدين عن التفكير في ماهية الدوافع الحقيقية لهذه الشخصيات، كما تسمح لخصومهم السياسيين بإعادة تصويرهم في صورة شياطين. في ذات الوقت غالبا ما تكون رؤية مؤيدي الشخص له كقديس أقل قبولا وإقناعا. في جميع الاحتمالات، فإنه لا الأعداء ولا المؤيدون يبذلون ما يكفي من الوقت لتكوين رأي متوازن أو قابل للتطبيق في ساحة اللعبة. يخدم هذا التحليل للشخصيات السياسية غرض آخر، من خلال التركيز على الشخصية ووصمها بصفات مرضية فإنه يتم تجنب المهمة الصعبة المتمثلة في معرفة ما يحاول القيام به، عن طريق رفض أي دافع آخر سوى اعتداده بذاته.

هذا الاعتداد غالبا ما يكون حاضرا بقوة عند معظم القادة السياسيين وحتى الصحفيين. ولكن الدوافع غالبا ما تكون أكثر تعقيدا بكثير. في الظرف الحالي لتركيا، فإنها حتما ستكون أكثر تعقيدا مما يتصور الكثيرون.

دعونا ننظر إلى ما هو واضح. يجري اجتياح العالم الإسلامي السني من قبل موجة مكثفة من التطرف الديني والسياسي. تأسست تركيا الحديثة كدولة علمانية عسكرية قبل قرن من الزمان تقريبا. وهي تأوي تكتل سكاني كبير من المؤمنين بالعلمانية وكان هذا التكتل ليصبح أكبر حجما في حال لم يتم رفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي. ولذا فإن هذا التصاعد السني هو حقيقة واقعة تواجهها تركيا الآن.

وبالإضافة إلى ذلك، تعتبر تركيا قوة صاعدة. لدى البلاد ثاني أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم الإسلامي (خلف إندونيسيا)، فضلا عن جيشها الكبير. كما أنها تمثل قاعدة مستقرة نسبيا في خضم عدم الاستقرار. إلى جنوبها، هناك سوريا والعراق تعيشان حالة من الفوضى. إلى الشمال الغربي، هناك أوروبا التي تموج بالاضطراب. إلى الشمال، ترى تركيا أوكرانيا التي تواجه روسيا مباشرة. كل هذه الأزمات تؤثر بشكل مباشر على تركيا. يتطلع الاتحاد الأوربي إلى أنقرة للاضطلاع بمهمة إدارة اللاجئين السوريين. وقد كانت على وشك الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا كما أن الوضع على حدودها الجانبية قد أصبح خارج السيطرة. وبالنسبة لتركيا، فإنها تنظر إلى الأكراد بوصفهم تهديد داخلي.

لديك إذا قوة كبيرة محاطة بهذا القدر من عدم الاستقرار وتشهد تصاعدا كبيرا في التدين السني بين سكانها. في مثل هذه الظروف، يجب على تركيا أن تجد لنفسها مكانا داخل العالم الإسلامي بما يتناسب مع حجمها ومصالحها. الهدف في النهاية هو تحقيق الاستقرار في المنطقة، ولكن للقيام بذلك يجب على تركيا أن تؤكد نفوذها في المناطق العثمانية السابقة. ولكنها ليست في وضع يمكنها من القيام كذلك. إنها ليست قوة عظمى بعد ولكنها تتطلع لتصبح كذلك. وعليها الآن أن تجد طريقا مؤقتا.

العثمانية الجديدة

اسمحوا لي إذن بالتكهن. «داود أوغلو» هو مسلم ورع. كوزير للخارجية، كان يرى المد المتصاعد من العالم الإسلامي، ووفقا لخلفيته الأكاديمية فإنه يرى أن هذا الاتجاه لا يمكن ببساطة أن مواجهته من قبل تركيا كما أنها ببساطة لا يمكنها تجاهله. ولم يكن «داود أوغلو» معاديا بالطبيعة لهذا المد، ولكنه هدفه كان حماية أمن تركيا وإعادة تشكيل هذه الموجة من الارتفاع وبخاصة في العالم العربي إلى الجنوب. لم يكن هناك حل واحد لهذه المشكلة. لم يكن بإمكان تركيا أن تدخل في مواجهة مع هذه القوى كما لم يكن بإمكانها أن تذعن لها.

في هذا الوقت ظهر الحديث عما يعرف بالعثمانية الجديدة. وهي عقيدة تتضمن إحياء القوة الإمبراطورية لتركيا في جميع الاتجاهات، كما تنطوي أيضا على عقيدة دينية. ربما يكون هناك صلة ما بين العثمانية الجديدة وبين الخلافة. ولكن لم يكن إعلان الخلافة على جدول أعمال «أردوغان»، في حين أن ترك «داود أوغلو» ليعيد تشكيل المنطقة كان أمرا ضروريا. عندما ظهرت «الدولة الإسلامية» وأعلنت الخلافة، لم تكن تركيا تؤيد ذلك كما أنها لم تكن تملك القدرة على سحقها. تدمير «الدولة الإسلامية» ليس مهمة سهلة ومن المرجح أن يثير ارتدادات غير متوقعة في تركيا. لذا فقد لعب «داود أوغلو» لعبة العثمانية. وقد سعى من خلال ذلك إلى احتواء «الدولة الإسلامية» بأقل قدر ممكن من الاشتباك بحيث يمكن لتركيا في وقت ما السيطرة عليها وإعادة تشكيلها إلى كيان إسلامي ولكنه أقل وحشية. على الرغم من كل المطالب الأمريكية، رفض الأتراك في بداية الأمر التورط في الحرب في سوريا أو العراق. وقد كان ذلك يمثل قمة الحكمة السياسية والعسكرية من وجهة نظرهم.

ولكن التدخل الروسي في سوريا عقد من موقف تركيا بشكل كبير. روسيا هي العدو التاريخي لتركيا. وجود روسيا إلى جنوب تركيا إضافة إلى تمركزها على البحر الأسود من شأنه أن يضع تركيا في موقف صعب في التعامل مع سوريا والعراق في الوقت الذي تواجه فيه قوة عظمى. كان الهدف من إسقاط الطائرة هو توجيه تحذير إلى روسيا. ولكن تركيا قد أدركت أن روسيا لم تكترث ولم تقم بالرد بالمثل. ولكنها ردها جاء غبر تكثيف الدعم لحزب العمال الكردستاني، والذي كان يوما ما حليفا للسوفييت.

شرع الأوربيون في محاولة التقارب مع تركيا من أجل إيواء اللاجئين. وكان الأوروبيون يخافون من تخفي أعضاء تنظيم «الدولة الإسلامية» بين اللاجئين، كما كان لدى الأتراك مخاوف مماثلة. وسرعان ما بدأت «الدولة الإسلامية» في مهاجمة أهداف تركية. وتضم تركيا الآن عددا غير معروف من نشطاء التنظيم.

رياح مضادة

والآن يكاد الوضع في تركيا يخرج عن إطار السيطرة. فشلت استراتيجية «داود أوغلو» في احتواء الفوضى بفعل التواجد الروسي والنشاط الكردي، كما ازدادت الضغوط الأمريكية على تركيا للتدخل ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وبدا أن الولايات المتحدة متقبلة لفكرة الوجود الروسي في سوريا. الولايات المتحدة تريد رحيل «بشار الأسد» لكن ليس في الوقت الذي تمثل فيه «الدولة الإسلامية» خطرا على دمشق. لا يمكن للولايات المتحدة حماية «الأسد» لأسباب سياسية، ولكن يمكن للروس أن يفعلوا ذلك. بدأ الأمريكان والروس استكشاف وقف إطلاق النار معا، ورغم أنهما ليسا على وفاق كلي إلا أنهما لا يزالان يعملان معا.

والآن يبدو أن الأتراك قد صاروا في مأزق بين عدائية الروس وحيادية الأمريكيين. وصل الأتراك إلى بولندا ورومانيا للبحث عن شراكة من أجل إظهار قيمة تركيا أمام الولايات المتحدة. ولكن الولايات المتحدة لم تكن مقتنعة بما يكفي ويبدو أنها كانت ترغب في تدخل تركي مباشر معها ضد «الدولة الإسلامية»، وبعد ذلك يمكن اعتبارات حصول تركيا دعم الولايات المتحدة ضد روسيا. وبمجرد التعامل مع «الدولة الإسلامية» فإنه يمكن ساعتها مناقشة قضية مستقبل «الأسد».

تبددت رؤية «داود أوغلو» لإدارة الموجة السنية في خضم حالة الفوضى. وصارت تركيا تواجه كل من روسيا و«الدولة الإسلامية» في آن واحد وبدون الولايات المتحدة إلى جانبها. حاولت تركيا ببطء إلى إيجاد توازن جديد ولكن الولايات المتحدة ليست مستعدة لأي خطة لا تشمل التدخل ضد «الدولة الإسلامية». وسوف أواصل التكهن بأن الولايات المتحدة لم تكن مرتاحة مع «داود أوغلو». في النهاية قرر «أردوغان»، الذي يتعرض لضغوط من جميع الأطراف إبعاد «داود أوغلو» وبدأت العملية الصعبة المتمثلة في استيعاب تكلفة محاربة «الدولة الإسلامية» بالاستعانة بالطائرات الأمريكية في الجو والقوات التركية على الأرض.

هكذا تنتهي التهكنات. ولكننا رأينا بوضوح التحركات التركية على البحر الأسود وفي سوريا. ورأينا المحادثات مع بولندا ورومانيا. كما سبق أن سمعنا تلك الشائعات التي لا نهاية لها حول تجاهل تركيا للدولة الإسلامية. هذه الأمور ربما تسهم في بناء صورة حول تحول كبير مرتقب في السياسة التركية يصعب أن يكون لـ«داود أوغلو» مكانا فيه.

ربما لا يخلو الأمر من أبعاد تتعلق بشخصية «أردوغان» ولكن رحيل «داود أوغلو» كان أمرا غريبا حقا. وأظن أن هناك قرارا قد اتخذ بأن الأمور قد خرجت عن الحد في الوقت الذي تتواصل في الضغوط الأمريكية وفي النهاية كان هناك ثمن ما لا بد من دفعه.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

تركيا أردوغان داود أوغلو الدولة الإسلامية

تركيا ما بعد «داود أوغلو»

التحديات الجيوسياسية أمام تركيا تتخطى خلاف «أردوغان» و«داود أوغلو»

«أوغلو»: أثق بـ«أردوغان» ولن أسمح بالنيل من صداقتنا.. سأغير منصبي ولن أغير رفاقي

«أوغلو» يستقيل احتجاجا على تدخلات «أردوغان» ويدعو الحزب لانتخاب رئيس جديد

ماذا يعني رحيل «داود أوغلو» لحزب العدالة والتنمية ولتركيا بشكل عام؟