التحديات الجيوسياسية أمام تركيا تتخطى خلاف «أردوغان» و«داود أوغلو»

السبت 7 مايو 2016 12:05 م

هناك قدر كبير من النقاش الذي يدور حول الخلاف بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء. أغلب ذلك النقاش يميل إلى التركيز على السياسة المحلية في تركيا، مع تضخيم أهمية هذا الصدع. ولكن النخب في جميع البلدان يختلفون مع بعضهم البعض بقوة وعنف. حقيقة كون أي منهما يمتلك المزيد من السلطة والنفوذ هي أقل أهمية بكثير من كيفية إدارة تركيا للأزمات المختلفة التي تواجهها داخليا وخارجيا.

وقد جاءت التقارير حول مغادرة «داود أوغلو» لمنصبه في أعقاب اجتماع دار يوم 4 مايو/أيار بين «داود أوغلو» وبين الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» وهو الاجتماع الذي فشل في إصلاح الخلاف المتنامي بين الرجلين. وكانت وسائل الإعلام التركية والدولية تضح بالتقارير حول الصراع المتصاعد بينهما منذ أن صوتت اللجنة المركزية لحزب العدالة والتنمية المكونة من 50 عضوا على انتزاع صلاحية تعيين قادة الحزب المحليين من «داود أوغلو». ومع ذلك فإن هذا الصراع لا يزال بعيدا عن التحديات التي تواجهها البلاد التي تسعى إلى تقديم نفسها كقوة رائدة في الشرق الأوسط، وهي قضية أكبر بكثير من قضية أي زعيم سياسي ٍسوف يستأثر بالسلطة التنفيذية.

المناورة السياسية

هذه الصراعات على السلطة هي جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية في جميع البلدان. هذا يحدث بشكل خاص حين تكون السلطة مقسمة بين مختلف المؤسسات والمكاتب. ولكن المنافسة الفردية بين الشخصيات تجعل هذا الأمر أكثر وضوحا. وهذا هو الحال مع تركيا.

يحاول الحزب الحاكم في البلاد تغيير الدستور من أجل تطبيق النظام الرئاسي. في النظام الحالي، يجب أن يكون الرئيس شخصية غير حزبية بينما يحمل رئيس الوزراء السلطة التنفيذية. بعد ثلاث فترات قضاها في منصب رئيس الوزراء، تولى «أردوغان» رئاسة الجمهورية في عام 2014 وهو المنصب الذي كان يشغله الشريك المؤسس في حزب العدالة والتنمية وحليف« أردوغان» طوال سبع سنوات، «عبد الله غول». في البداية، كان من المتوقع أن «غول» و«أردوغان» سيتبادلان مواقعهما، ومع ذلك، فإن «غول» لم يكن ليصبح رئيس الوزراء المطواع، ولذا فقد هندس «أردوغان» عملية تولي «داود أوغلو» منصب رئاسة الوزراء. ويعد «داود أوغلو» هو الفيلسوف السياسي والأكاديمي الذي شغل منصب مستشار السياسة الخارجية لـ«أردوغان» بين عامي 2003 و2007 كما شغل منصب وزير الخارجية بين عامي 2009 و2014.

في السياسة، فإنه حتى المساعدين الأكثر ثقة يميلون إلى إثبات أنفسهم في مرحلة ما. هذا ليس بالضرورة لأنهم يريدون الاستيلاء على السلطة لأنفسهم، ولكن بسبب الحاجة إلى موازنة الضغوط. يحظى «داود أوغلو» باحترام كبير داخل حزب العدالة والتنمية لكنه يدرك جيدا أن «أردوغان» هو زعيم الحزب وأنه لن يمكنه الفوز في مواجهة معه. «أردوغان» يريد استعادة السلطة التنفيذية، وهي مهمة لا يمكن ن تتم دون تمرير إصلاح دستوري عبر استفتاء شعبي، وهي مهمة كان يعهد بها إلى «داود أوغلو»، وهي المهمة التي لم يضطلع بها بالشكل الذي يروق للرئيس.

ومن غير الواضح ما إذا كان خليفة «داود أوغلو» سوف يكون أكثر مرونة، ولكن بيت القصيد هو أن رحيل «داود أوغلو» لن يؤثر في قدرة الحزب على الحكم. ومع ذلك، فإنه ليس من الواضح إذا ما كان «أردوغان» سوف ينجح في تأمين التعديلات الدستورية اللازمة لتمكينه من الحكم كرئيس. ولكن أيا كان ما سيؤول إليه الأمر فإن ذلك لن يغير من حقيقة أن تركيا عليها أن تتعامل مع العديد من التحديات الجيوسياسية، وأن أيا كان من سيرأس الحكومة التركية فإن عليه أن يختار من قائمة الخيارات الضيقة ذاتها لمعالجة هذه الأزمات.

التحديات الجيوسياسية

تركيا لديها واحد من أكثر المواقع استراتيجية في العالم، حيث تقع بين أوروبا وروسيا والقوقاز والشرق الأوسط. في الوقت الراهن، فإن كل هذه المناطق تعاني فعليا من أزمات. في تناقض مثير للسخرية مع سياسة صفر مشاكل مع الجيران التي وضعها «داود أوغلو»، تواجه تركيا الصراعات على جميع جبهاتها الحدودية. كل من هذه المناطق لديها الصراعات الداخلية الخاصة بها، فضلا عن المشاكل الخاصة بتركيا ذاتها.

يشهد الاتحاد الأوروبي حالة من الانهيار بسبب الأزمات المالية الناجمة عن التباطؤ الاقتصادي العالمي. كما أنه يواجه أزمة ضخمة بسبب الأعداد الكبيرة من المهاجرين القادمين من الدول الإسلامية. كما أنه قد صار مهددا على نحو متزايد من قبل الجماعات الإرهابية. الأوروبيون يريدون من أنقرة أن تقوم بوقف تدفقات اللاجئين، فضلا عن اتخاذ إجراءات صارمة ضد خطوط إمداد «الدولة الإسلامية» التي تمر عبر تركيا. من وجهة نظر تركيا، فإنها بالفعل تقدم الكثير في هذا الصدد.

في الشمال، تسعى روسيا إلى منع الغرب من التعدي على مجال نفوذها في أوكرانيا. تركيا، لكونها دولة عضو في حلف شمال الأطلسي من ناحية ولكونها تعتمد على روسيا في توفير أكثر من نصف إمدادات الغاز الطبيعي الخاصة بها من ناحية أخرى، فإنها قد وجدت نفسها عالقة في منتصف هذا الصراع. الدعم الروسي لنظام الرئيس السوري «بشار الأسد»، الذي تريد أنقرة الإطاحة به، قد زاد من حدة الصراع بينها وبين موسكو. وقد ازدادت هذه التوترات منذ أن أقدم الأتراك على إسقاط طائرة حربية روسية منذ ما يقرب من ستة أشهر. بهذه الطريقة، فإن روسيا تمثل مشكلة بالنسبة إلى تركيا من كل من الشمال والجنوب.

ورغم ذلك، فإن منطقة الشرق الأوسط لا تزال تمثل أكبر التحديات بالنسبة للسياسة الخارجية التركية، وهي تلقي بظلالها في صورة المزيد من النزيف في سياستها الداخلية بالنظر إلى الأزمة الكردية العابرة للحدود. وتعد المشكلة الكردية واحدة من أكبر التهديدات الأمنية التي يجب أن تتعامل معها تركيا وذلك بسبب تنشيط الميول الانفصالية الكردية بفعل الحرب في سوريا. بالنسبة لتركيا، فإن التعامل مع الحركة الكردية السورية أكثر أولوية من التصدي لتهديدات «الدولة الإسلامية».

ومع ذلك، فإن تركيا لا ترغب في التورط في الحرب السورية. وهذا ما يفسر لماذا يبدو الأتراك حتى الآن مترددون للغاية في إرسال قواتهم إلى سوريا على الرغم من التهديدات التي يمثلها كل من الانفصاليين الأكراد و«الدولة الإسلامية» على الأمن القومي التركي. وفي الوقت نفسه، فإن إيران، بوصفها الداعم الرئيسي للنظام السوري، تمثل عقبة رئيسية لتحقيق أهداف تركيا في سوريا. ومع كونها منافسا تاريخيا لتركيا، فإن إيران سوف تظل تمثل تحديا للهيمنة الإقليمية لتركيا في المستقبل المنظور، نظرا لكونها بلد يتمتع بأغلبية شيعية، وهي تتولى قيادة الأقليات الشيعية في العالمين العربي والإسلامي منذ ثورة عام 1979.

ولكن المشكلة الأكثر إلحاحا بالنسبة إلى تركيا هي علاقتها مع الدول الأخرى ذات الأغلبية السنية. وعلى الرغم من الهوية الطائفية السنية المشتركة، فإن العرب لا يريدون مساعدة تركيا في سوريا على حساب سقوط المنطقة تحت هيمنة الأتراك. هذا هو السبب في أن المملكة العربية السعودية تواصل السعي بقوة لتقديم نفسها بوصفها زعيمة للعالمين العربي والإسلامي، خصوصا مع تشكيلها للتحالف العسكري الإسلامي في ديسمبر/كانون الأول. كان الأتراك مترددين في المشاركة في هذا المشروع نظرا لرؤيتهم للاختلافات المحتملة مع السعوديين في المنطقة في مرحلة ما بعد الصراع. حيث تنظر تركيا إلى نفسها بوصفها رائدة للمنطقة وزعيمة للعالم الإسلامي.

القيادة الإقليمية

على الرغم من اختلافاتها، فإن «أردوغان» و«داود أوغلو» كانا متوافقين تقريبا فيما يتعلق بطموحاتهما الإقليمية. يسعى كل منهما إلى إحياء الدور القيادي السابق لتركيا في منطقة الشرق الأوسط. هذه الاستراتيجية ليست مجرد تفضيل شخصي بالنسبة إليهما ولكنها وسيلة للتعامل مع الحاجة لاستعادة النظام في المنطقة كجزء من الضرورات الأمنية الوطنية. تمثل الفوضى التي تضرب العالم العربي فرصة لتركيا لاستعادة دورها. ومع ذلك، بالإضافة إلى العقبات المتعددة التي نوقشت أعلاه، فإن المشكلة الرئيسية هي أن تركيا ستجد صعوبة في استعادة قيادة الشرق الأوسط (العربي إلى حد كبير)، في عصر القومية العرقية.

تركيا والعالم العربي

أفكار «داود أوغلو» حول العلاقات والروابط الإسلامية تمثل مادة ثرية للنظر إلى التفكير الاستراتيجي التركي. وتستمد هذه الأفكار من عصر الإمبراطورية عندما كانت الإمبراطورية العثمانية قادرة على حكم الشرق الأوسط العربي لمدة 4 قرون من خلال التأكيد على القواسم الدينية المشتركة بين العرب والأتراك. وعلى الرغم من أن العثمانيين أشاروا إلى إمبراطوريتهم بوصف السلطنة بدلا من الخلافة، فإن السلاطين كانوا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم خلفاء، وبخاصة بعد غزا العثمانيون الشرق الأوسط في أوائل القرن السادس عشر.

ويأتي إعلان «الدولة الإسلامية» للخلافة ليضع المزيد من التعقيدات على جهود تركيا نحو زعامة منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. لا يمكن للأتراك تحمل أن يتم النظر إليهم على أن يروجون لمشروع مماثل لذلك الخاص بـ«الدولة الإسلامية» حتى لو كانت مختلفا عنه. ومع ذلك، إذا كان هناك قوة عسكرية في المنطقة يمكنها هزيمة «الدولة الإسلامية» وفرض النظام في المنطقة، فإن هذه القوة ستكون هي تركيا.

هزيمة «الدولة الإسلامية» وإسقاط «نظام الأسد» سوف يخلق فراغا يتطلب تمركز القوات التركية في سوريا لفترة طويلة لتحقيق الاستقرار في البلاد. هناك خطر كبير أن تركيا يمكن أن تتحول بسرعة من محرر للشعب السوري إلى محتل للأراضي العربية. سوف يتعين على تركيا استخدام الهوية الدينية من أجل التقليل من حدة هذه المخاطر. في الوقت الذي سوف تصبح فيه سوريا أولوية أمنية وطنية وإقليمية لتركيا في المستقبل المنظور، فإن استراتيجية أنقرة على المدى الطويل بالنسبة للعالم العربي تتمثل في دعم وتطوير أنظمة على نفس صورتها. ويشمل هذا الجهد دعم النظم السياسية الديمقراطية التي يمكن أن تشمل الإسلاميين. هذه الاستراتيجية هي التي تسبب بالفعل توترات مع دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وهي الدول التي تنظر إلى الديمقراطية والإسلام بوصفه مزيجا خطيرا.

سوف تتطلب هذه الخطة طويلة الأجل بذل جهد هائل من الأتراك يتطلب ما هو أبعد من الجهد العسكري، على الرغم من أن هذا الأخير سوف يكون حاسما. في الوقت الراهن، يأمل الأتراك أن الولايات المتحدة سوف تلعب دورا قياديا. لكن واشنطن تواصل الضغط على أنقرة كي تأخذ زمام المبادرة كجزء من الاستراتيجية الأميركية التي تدفع اللاعبين الإقليميين نحو تحمل عبء المهام الثقيلة. في الواقع، فإن هذه المسألة هي مصدر توترات كبيرة بين البلدين ومن المحتمل أن تكون سببا للخلاف داخل الدولة التركية.

في نهاية المطاف، فإن الأتراك لا يستطيعون إغضاب الأمريكيين والأوروبيين والروس والعرب في نفس الوقت، خاصة في الوقت الذي يواجهون فيه حريقا على حدودهم الجنوبية. وهكذا، فإن الطريقة التي ستتعامل بها تركيا مع هذه القضايا هي أكثر أهمية من الاشتباكات الشخصية بين «أردوغان» و«داود أوغلو» لأن حتى إذا قرر كلا الرجلين التخلي عن مواقعهما الخاصة، فإن تركيا سوف تظل تواجه فوضى إقليمية لا يمكنها التعايش معها.

 

 

  كلمات مفتاحية

تركيا داوود أوغلو أردوغان حزب العدالة والتنمية روسيا الأزمة الكردية

قصة نجاح «أحمد داود أوغلو»

«أوغلو»: أثق بـ«أردوغان» ولن أسمح بالنيل من صداقتنا.. سأغير منصبي ولن أغير رفاقي

«أوغلو» يستقيل احتجاجا على تدخلات «أردوغان» ويدعو الحزب لانتخاب رئيس جديد

اجتماع مرتقب للحزب الحاكم وأنباء عن استقالة «داود أوغلو» لتفاقم الخلاف مع «أردوغان»

عن «داود أوغلو» و«أردوغان»

تركيا ما بعد «داود أوغلو»

توقعات باختيار «أردوغان» لوزير الاتصالات أو نائب رئيس الوزراء لخلافة «داود أوغلو»

«العدالة والتنمية» التركي يعلن غدا عن المرشح لرئاسته

رحيل «داود أوغلو»: هل نشهد تغيرات في السياسة الخارجية التركية؟

قراءة أخرى لعملية التغيير التركية

تقرير من تركيا

ماذا يعني رحيل «داود أوغلو» لحزب العدالة والتنمية ولتركيا بشكل عام؟