حافة الهاوية.. الانسداد السياسي يهدد بنسف الديمقراطية الهشة في تونس

الخميس 18 فبراير 2021 11:08 ص

في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، شهدت تونس تطورات أعادت إلى الأذهان أحداث 6 يناير/كانون الثاني الدراماتيكية في واشنطن.

وخارج البرلمان التونسي في العاصمة تونس، أعرب مئات المتظاهرين عن غضبهم من القادة المنتخبين في البلاد، بينما كان أعضاء البرلمان يصوتون على تعديل وزاري كبير أكد الرئيس "قيس سعيد" أنه غير دستوري.

وبعد عقد من ثورة الياسمين، دعا المتظاهرون إلى إسقاط النظام.

جاء ذلك بعد أسبوع من المظاهرات التي شهدت وفاة شخص واعتقال 1000 شخص على الأقل، مع تصاعد مطالب المتظاهرين بالوظائف والسكن والرعاية الصحية اللائقة.

وتلخص هاتان القصتان، إحداهما عن الأزمة الاقتصادية والأخرى عن الأزمة السياسية، العاصفة المتصاعدة التي تهدد بغرق الديمقراطية في تونس بعد عقد من انتفاضات الربيع العربي.

ويعد وصول البلاد إلى هذا المستوى نتيجة جزئية لرئيس شعبوي أدى ازدراؤه للأحزاب السياسية ولرئيس الوزراء نفسه إلى توسيع الفجوة بين البرلمان والسلطة التنفيذية.

لكن الشعور بالضيق في تونس أعمق بكثير من سلوك أي زعيم.

وبالرغم أن النظام السياسي في البلاد تم تصميمه لمنح النخبة السياسية المنقسمة طريقة لتقاسم السلطة، لكنه في الواقع أدى إلى نشوب الصراع والشلل في البرلمان الذي فشل في معالجة الأزمة الاقتصادية المستمرة في البلاد.

نظام يعتمد على الرئيس

وكان من المفترض أن يخفف النظام الذي ظهر عام 2014 مخاوف كل من الإسلاميين والعلمانيين من سيطرة الطرف الآخر على البرلمان، وذلك من خلال استخدام نظام انتخابي نسبي يحرم أي مجموعة واحدة من الأغلبية، وبالتالي يتطلب التوافق في كثير من الأحيان لتقاسم السلطة.

علاوة على ذلك، قسّم الدستور الجديد السلطة بين رئيس مسؤول عن الشؤون الخارجية والأمن القومي، وبرلمان ورئيس وزراء مسؤول عن الشؤون الداخلية.

وشجع مثل هذا التقسيم جميع الأطراف على النظر إلى الرئيس كحكم وطني تتمثل مهمته الأساسية في تمثيل الأمة بأكملها.

وعلى هذا الأساس، كان من المتوقع أن يعزز الرئيس الإجماع ويحد من الانقسامات الاجتماعية واختلافات الهوية والأيديولوجية داخل المجتمع التونسي.

وكان دور الوساطة هذا (ولا يزال) مهما؛ لأن الدستور لا يحدد بوضوح إجراءات تقاسم السلطة بين الرئيس والبرلمان، أو بين الرئيس ورئيس الوزراء.

ووفقا للمادة 89، فإن الحزب الذي يتمتع بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان يختار الحكومة، لكن الرئيس هو الذي يصدر مرسوما بتعيين رئيس الحكومة والوزراء.

ومن خلال ترك تعيين رئيس الوزراء والحكومة للرئيس، مع احتياج الوزراء للحصول على ثقة البرلمان قبل أداء اليمين أمام الرئيس، فشلت المادة 89 في توضيح ما إذا كانت السلطة النهائية للحكومة مستمدة من البرلمان أم الرئيس.

وبالرغم أن هذه الإجراءات المتضاربة قد ينظر إليها باعتبارها سببا في إشعال صراع بين الهيئة التشريعية والتنفيذية، فإنها مفيدة أيضا سياسيا.

فطالما احتفظ الرئيس بثقة جميع الأحزاب، فإن أولئك الذين يخشون أن ينضم المنافسون إلى حكومة رئيس الوزراء لفرض جدول الأعمال على بقية أعضاء البرلمان يمكن أن ينظروا إلى الرئيس كضامن للحفاظ على التوازن.

باختصار، في حين أن تونس لديها "نظام مختلط"، فإن الرئيس هو اللاعب والحكم الحاسم.

"قيس سعيد" لم يلعب دور الوسيط

وأدى انتخاب "قيس سعيد" في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى تعطيل هذا النظام.

ونظرا لأنه لم يكن له أي علاقات بأي حزب سياسي ولم يشغل أي منصب، كان من المتوقع على نطاق واسع أن يظل "سعيد" فوق الصراع السياسي.

ولكن بصفته وافدا جديدا أظهر ازدراءه علنا للنظام السياسي الحالي، فقد افتقر إلى الخبرة وربما الرغبة، لإدارة صراع القوى بين القادة المتنافسين في البلاد.

وباستقوائه باستقلاله كممثل للشعب، شرع "سعيد" في تجاهل إرادة الكثيرين، ليس أقلهم رئيس وزرائه، "هشام المشيشي"، ورئيس البرلمان "راشد الغنوشي" الذي خشي في البداية أن يكون "المشيشي" بمثابة "رجل الرئيس" وليس صوت البرلمان.

لكن اتضح أن مخاوف "الغنوشي" لا أساس لها، ففي حين أنه مدين بالفضل للرئيس الذي عينه، كان "المشيشي" بحاجة للحصول على الثقة من البرلمان لذلك شكل تحالفا مع "النهضة" و"قلب تونس".

وكحزب علماني يقوده المليونير الإعلامي "نبيل القروي"، المحتجز حاليا بتهمة الفساد المالي، أثارت شراكة "قلب تونس" مع حركة "النهضة" الإسلامية غضب جميع الأحزاب العلمانية الأخرى.

وسعيا لمواجهة "النهضة"، بدأت هذه الأحزاب في مغازلة "سعيد"، الذي صب جام غضبه على "الغنوشي" و"المشيشي"، ما جعله على خلاف مع العديد من النواب، لا سيما في المعسكر الإسلامي.

وبحلول أواخر عام 2020، كان الرئيس مصدرا رئيسيا للتوتر بين القادة الإسلاميين والعلمانيين.

وتصاعدت حدة الاقتتال الداخلي بين الإسلاميين والعلمانيين بالتزامن مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والصحية في البلاد، ما مهد الطريق لأسبوع من الاحتجاجات في الشوارع ومظاهرة 26 يناير/كانون الثاني الماضي أمام البرلمان.

الرئيس يقول لا

وتمثل التوترات المتصاعدة بين الرئيس والبرلمان أزمة سياسية، وتدور هذه الأزمة في جوهرها حول سؤال رئيسي واحد، وهو هل حان الوقت أخيرا للتخلي عن نظام الحكم المختلط لصالح نظام برلماني أو رئاسي؟

وقد ظهر نقاش حاد حول هذه المسألة الحاسمة في أوائل يناير/كانون الثاني الماضي، عندما اقترح "المشيشي" استبدال 11 وزيرا في الحكومة.

وقال "المشيشي" وحلفاؤه إن المادة 89 تمنح رئيس الوزراء الحق في إجراء هذه التغييرات، بينما رد "سعيد" وحلفاؤه بأن القراءة الصحيحة للدستور تدعم الاستنتاج بأن الرئيس يمكنه أن يقرر قبول ترشيحات رئيس الوزراء أم لا.

وفي محاولة لتوضيح موقفه، استدعى "سعيد" رئيس الوزراء والقادة الآخرين إلى اجتماع متلفز ادعى خلاله أن المشيشي" وحلفاءه قوّضوا الدستور وأن الوزراء الجدد لديهم تضارب في المصالح.

ولم يكن انتقاد "سعيد" لـ"المشيشي" موجها فقط إلى الأخير، بل كان موجها إلى النواب الذين تجرأوا على تحدي الرئيس.

وقد تصاعد هذا التحدي في الأسابيع التي سبقت اجتماع 25 يناير/كانون الثاني الماضي المشؤوم، وفيما اعتبره "سعيد" وقاحة خالصة، خرج "الغنوشي" أخيرا داعيا إلى نظام برلماني كامل بعد أن أخر الرئيس أداء اليمين للوزراء الجدد الذين وافق عليهم البرلمان.

وأثارت تصريحات "الغنوشي" عاصفة من الانتقادات من القادة العلمانيين واليساريين والليبراليين.

وفي حديثه عن التيار العربي الشعبي التونسي، قال "محسن النبطي" إن تصريح "الغنوشي" "صب الزيت على النار، وكشف عن نواياه الانقلابية العلنية".

وردد زعيم مشروع الحركة التونسية "محسن مرزوق" هذا الرأي عندما ادعى أن كلمات "الغنوشي" كانت "تعبيرا صادقا عن ميوله إلى الانقلاب".

وبعد أن حصل "المشيشي" على تصويت بالثقة من البرلمان لتعديل وزاري، هدد "سعيد" بحل البرلمان بينما بدأ بعض خصومه في طرح فكرة عزل الرئيس نفسه.

وسعيا لعرقلة أي جهد من هذا القبيل، كثفت "عبير موسي"، زعيمة الحزب الدستوري الحر والمدافعة الشرسة عن نظام رئاسي ذي توجه علماني يستبعد جميع الأحزاب الإسلامية، حملتها لعزل "الغنوشي"، وبالتالي مد يد الدعم للرئيس.

ومن المحتمل جدا أن يفي "سعيد" بتهديده بالضغط من أجل انتخابات جديدة.

ولكن إذا حدث هذا دون تغيير في النظام الانتخابي، فإن الانقسامات الاجتماعية وتلك التي ترتبط بالهوية ذاتها، والتي شلت البرلمان لمدة 6 أعوام، ستظهر من جديد.

ومن شأن هذا الوضع أن يؤثر على تركيز النواب على الأزمة الاقتصادية في تونس ومشكلة الفساد المستشري، ناهيك عن معركة البلاد مع وباء "كوفيد-19" الذي أصاب حتى 11 فبراير/شباط الجاري نحو 220 ألف تونسي وتسبب في وفاة 7 آلاف و400 شخص.

الحاجة إلى حوار وطني ثاني

وليس من المستغرب الفشل في تقديم برنامج إصلاح اقتصادي متماسك.

فكما تظهر الاحتجاجات الأخيرة، فإن أي استراتيجية لا يدعمها شيء مشابه لخطة "مارشال" لتخفيف تكاليف الإصلاح من شأنها أن تثير المزيد من المقاومة من تلك القطاعات الاجتماعية التي تعاني بالفعل وطأة الأزمة الاقتصادية.

علاوة على ذلك، فإن قدرة أي حكومة على مواجهة هذا التحدي قد تمت إعاقتها بسبب الجهود المتنافسة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة لحماية مصالحهما المتنافسة.

وبينما دعا الاتحاد العام التونسي للشغل الرئيس لترأس حوار وطني جديد حول القضايا الاقتصادية، من غير المرجح أن ينفق "سعيد" رأسماله السياسي المتراجع بالفعل في الإشراف على المفاوضات بين مجموعات المصالح الاقتصادية المتنافسة التي لم تتفق حتى الآن على كيفية تعزيز تغيير السوق مع حماية الفئات الأكثر ضعفا في تونس.

وقد يكون أحد المخارج المحتملة من المستنقع الحالي هو إقامة حوار وطني جديد لا يركز على الاقتصاد، بل يركز على بعض العقبات السياسية والدستورية الرئيسية أمام إنشاء برلمان أكثر فعالية.

ومع تجنب الموضوع الساخن المتمثل في اختيار نظام رئاسي أو برلماني، قد يتطرق الحوار إلى قضايا مثل تعديل قانون الانتخابات أو المسألة الخلافية المتعلقة بتعديل القانون الذي يحدد إجراءات اختيار المحكمة الدستورية.

ولم يتم إنشاء هذه المحكمة بعد؛ لأن النواب، الذين من المفترض أن يختاروا 4 أعضاء من المحكمة المكونة من 12 عضوا، فشلوا في الاتفاق.

ولا يعتبر هذا الخلاف أمرا مفاجئا، حيث سيكون للإسلاميين أو العلمانيين نصيب كبير في محكمة ستلعب دورا رئيسيا في تعريف الحقوق المدنية وحقوق الإنسان.

ونظرا للمأزق الدستوري، قد يكون من المفيد الضغط من أجل مثل هذا الحوار، لا سيما إذا كان بإمكانه الاتفاق على محكمة يمكنها، بحكم سلطتها في المراجعة القضائية، أن تساعد في تحديد صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية.

دور دول الخليج العربية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة

وعلى الصعيد الإقليمي الأوسع، يمكن لدول الخليج العربية المساعدة من خلال تقديم حزمة اقتصادية مهمة لدعم تحديث البنية التحتية للبلاد ودعم أي برنامج إصلاحي.

ويجب توجيه هذه الجهود نحو المجتمعات الفقيرة  التي تعيش في ضواحي تونس العاصمة والمدن الأخرى وفي المناطق الريفية النائية.

ويمكن لقطر، التي استثمرت بالفعل بكثافة في أسواق الرفاهية والفنادق في تونس، ودعمت صندوقا لمساعدة رواد الأعمال الشباب، أن توسع جهودها من خلال إنشاء صندوق استثمار اجتماعي مصمم خصيصا لتعزيز التوظيف وتطوير البنية التحتية في المجتمعات المحرومة.

ولن يقدم هذا النهج فوائد اقتصادية واجتماعية فحسب، بل سيُظهر أن قادة قطر جادون في تعزيز الديمقراطية في العالم العربي.

ويمكن أن تحظى هذه الجهود بدعم الاتحاد الأوروبي، الذي اقترح اتفاقية تجارة حرة قوبلت حتى الآن بمقاومة من قبل العديد من الجماعات التونسية. وللمضي قدما، يجب أن تحمي شروط هذه الاتفاقية الصناعات المعرضة للخطر.

وسيتطلب مثل هذا الترتيب جمع أصحاب المصلحة الرئيسيين، بما في ذلك اتحادات العمل، لإجراء محادثات من شأنها تحديد اتفاقية لتعزيز التجارة بطرق تفيد كلا الطرفين.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فيمكن للإدارة الجديدة أن تمنح تونس مكانة فخرية في مؤتمر الديمقراطية العالمي الذي اقترحه الرئيس "جو بايدن".

ويمكنه أيضا توسيع شروط الدعم الاقتصادي لتونس مع الحفاظ على البرامج التي تعزز إصلاحات قطاع الأمن.

وأدت تصرفات الشرطة التونسية خلال الاحتجاجات الأخيرة إلى اتساع الفجوة بين الحكومة والشباب المحبط.

ويمكن لجهود الولايات المتحدة لتعزيز قدرة قطاع الأمن على معالجة التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية مع ضمان احترامه لحقوق الإنسان، أن تقدم مساهمة صغيرة ولكنها مهمة في استعادة قدر من الثقة لدى السكان الذين ليس لديهم ثقة في الديمقراطية.

المصدر | دانييل برومبرج | المركز العربي واشنطن دي سي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

ديمقراطية تونس قلب تونس النهضة البرلمان التونسي قيس سعيد احتجاجات تونس

في تصاعد للأزمة.. المشيشي: لن أستقيل والرئيس يعطل مصالح تونس

الغنوشي يطرح مبادرة لحل الأزمة السياسية في تونس