ما الذي تغير بعد مرور قرن على تأسيس دول الشرق الأوسط؟

الاثنين 16 مايو 2016 10:05 ص

كثيرا ما يقال إن تاريخ الشرق الأوسط الحديث يبدأ وينتهي مع توقيع اتفاقية سايكس بيكو التي تم توقيعها عام 1916، أي في مثل هذا الأسبوع قبل قرن من الزمان. يعود الفضل في التوصل إلى الاتفاق إلى كل من الدبلوماسي البريطاني السير «مارك سايكس» والدبلوماسي الفرنسي «فرانسوا جورج بيكو»، اللذان قادا المفاوضات المغلقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى والتي خرج مراسلاتها السرية إلى العلن في وقت لاحق. وعلى الرغم من أن سايكس بيكو كانت مجرد جزءا من تاريخ الشرق الأوسط فإنه لا يستطيع أحد أن ينكر أنه كان جزءا حاسما: نظرا لأنه قام بوضع إطار الكثير من الحدود التي تحدد منطقة الشرق الأوسط اليوم، بداية من ترسيم الأردن ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين، وحتى دول الخليج العربي. وقد كانت بعض هذه الدول أكثر نجاحا من غيرها، ولكنها جميعا قد واجهت اضطرابات بناء الدولة على مدار القرن الماضي. في حين أنه من المسلم به عموما أن الاتفاق يمثل نموذجا مثاليا لشبكات ما بعد الاستعمار البسيطة التي يتم فرضها في واقع معقد، فقد أصبحت تلك الحدود حقيقية بما في الكفاية بعد وقت ما. كما قام المواطنون والحكومات في كل بلد ببناء سردياتهم القومية.

يمكن القول إن اتفاق سايكس بيكو نفسه يمكن أن يكون أقل أهمية من المؤتمرات العديدة التي أدت إلى تنفيذه مثل مؤتمر سان ريمو عام 1920 الذي قسم الأراضي الألمانية والعثمانية إلى مناطق إدارية بريطانية وفرنسية، ومؤتمر القاهرة عام 1921، والتي فصل انتداب فلسطين إلى شرق الأردن وفلسطين. ولكن عندما نفكر في جذور إقامة دولة قومية على النمط الأوروبي فإننا غالبا ما نذهب إلى التفكير في الاتفاق الأصلي الذي تم توقيعه في عام 1916. وفي محاولة لفهم أنماط الصراع التي تضرب المنطقة حاليا، كتب «ديفيد فرومكين» في عام 2009 يقول:

«الدول التاريخية مالت للاحتفاظ بأوضاع جيدة. وعلى رأسها مصر وبلاد فارس الناجين من العالم القديم. الدول الجديدة التي أقامها رجال أقوياء تؤدي بشكل مقبول أيضا مثل الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك والملكية السعودية التي أسسها عبد العزيز بن سعود. هناك فئة ثالثة يبدو أنها لا تلقى قبولا مثل العراق وسوريا ولبنان والأردن و(إسرائيل) وهي الدول التي ولدت من رحم اتفاق سايكس بيكو وتعديلاته ويعتقد في كثير من الأحيان أنها تعد مصدرا للمشاكل».

ولكن حقيقة أن نشأة هذه الدول هي التي مثلت الأساس الجبري للفوضى تتجاهل الكثير من الواقع الطائفي العرقي على الأرض في هذه البلدان، تماما كما فعل اتفاق سايكس بيكو نفسه. في خضم الطائفية، غالبا ما تكون الحدود السياسية غير منطقية. هذا هو الدرس الذي تعلمته في وقت مبكر وقد سبق لي أن قضيت عطلة الصيف أثناء طفولتي في الشرق الأوسط وبالتحديد في القدس. في أحد أيام يونيو/حزيران، كانت عائلتي تخطط للقيام برحلة فمن حيفا إلى الحدود الشمالية بين لبنان و(إسرائيل). وقد قمت بمد قدمي قدر المستطاع تحت السياج المعدني الذي يمثل الأول بين العديد من الحواجز الآمنة التي تفصل بين البلدين. وقد ظللت بعد ذلك أتباهى لعدة سنوات أنني قد قمت بزيارة لبنان بهذه الطريقة.

وخلال السنوات العديدة التي فصلت بين تجربتي الأولى تلك في لبنان وبين زيارتي لبيروت كشخص بالغ كانت الأمم المتحدة قد خطت الخط الأزرق بين (إسرائيل) ولبنان لدرء التوتر عبر الحدود؛ في الوقت الذي تساعد فيه النشاط العابر للحدود لميليشيا حزب الله. وقد غيرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية دينامية أمن الحدود بالنسبة إلى (إسرائيل) وفلسطين ولبنان. بقيت الحدود الإسرائيلية اللبنانية على الخريطة، كما معظم حدود سايكس بيكو، على الرغم من تحرك القوات بين الجانبين. وحيث إن أيا من القوى الكبرى لم تأخذ على عاتقها إعادة رسم خريطة المنطقة، فإن الوسائل التي تقوم عبرها القوى الكبرى بتشكيل أفعال القوى الأكثر ضعفا صارت أكثر أهمية من مسألة الحدود السياسية.

ما بعد الدولة العثمانية

في عام 1916، كان الشرق الأوسط يحوز خارطة مختلفة للقوة والنفوذ مقارنة بما هو عليه الحال الآن. ابتداء من عام 1915، تجادلت فرنسا وبريطانيا في مفاوضات شبه يومية حول من له حق إدارة المناطق الشامية. وسط قلق كلا الجانبين حول كيفية ترجمة الأراضي التي يسيطر عليها إلى قوة عسكرية لأغراض كسب الحرب والسيطرة على المزيد من الأراضي. وقد وضعا معا تصورا لتشكيل دول عربية مستقلة اسميا مقسمة بين مجالات النفوذ البريطاني والفرنسي بما يسمح بالوصول إلى الموانئ والسيطرة على طرق التجارة البرية وبالطبع احتواء النفوذ الروسي في المنطقة. وقد خصصت المفاوضات السابقة بين القوى، مثل اتفاقية القسطنطينية لعام 1915، لأغراض الوصول إلى وفاق بشأن المطالبات الإقليمية المختلفة بما في ذلك المطالبات الروسية في المضايق التركية الثمينة. ولكن هذه المطالبات سرعان ما تم إسقاطها على جانب الطريق.

إذا كانت فرنسا وبريطانيا وروسيا هي القوى التي أسهمت يوما ما في رسم خريطة الشرق الأوسط بشكلها الحالي، فإن إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية (بشكل مباشر) وروسيا وأوروبا والولايات المتحدة (بشكل أقل مباشرة) هي القوى التي تسعى الى التأثير في المنطقة اليوم. قد تكون هذه المنافسة أقل صراحة من الغش السياسي الذي مثلته سايكس بيكو ولكن ليس هناك شك في أن صراعا واضحا يجري اليوم بين القوى العالمية. في بعض الدول المشرقية الأكثر استقرارا، مثل الأردن، فإن التأثيرات الخارجية تبدو أقل وضوحا. على النقيض من ذلك، فإنه من المستحيل أن يتم تجاهل السحب الخارجية في العراق ولبنان وسوريا. لكن القرن الذي مضى منذ صياغة اتفاقية سايكس بيكو قد أسهم في تغيير أدوار اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط.

خريطة القوى بين الماضي والحاضر

على الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية كانت لا تزال تتداعى في عام 1916، فإن بذور القومية التركية كان قد تم نشرها بالفعل. تأسست لجنة الاتحاد والترقي، سلف حزب الشعب الجمهوري، قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية. نما الحزب وقام بتعديل اتجاهاته في الوقت الذي قام فيه «مصطفى كمال أتاتورك» بتركيز المشاعر القومية في اتجاه إقامة الدولة التركية الحديثة. وكان الاستخفاف بالقوة التركية ربما من أكبر الأخطاء التي وقع فيها الحلفاء في مفاوضاتهم بين عامي 1916 و1922. في عام 1911، رفضت بريطانيا عرض التحالف العثماني، وفي عام 1915 كانت تركيا تحقق أعظم انتصاراتها العسكرية في مضيق الدردنيل في المعركة البحرية التي صدت القوات البريطانية والفرنسية والروسية. الآن في عام 2016، فإن تركيا تعود لتصعد نشاطها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وعلى الرغم من التوتر الذي يصيب علاقاتها مع بعض حلفائها، فإن تركيا لا تزال تسعى إلى إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا للمساعدة في محاربة« الدولة الإسلامية» جنبا إلى جنب مع دعم المعارضين السوريين واحتواء المحاولات الكردية في البحث عن السيادة. وعلاوة على ذلك، فإن تركيا تسعى إلى استئناف علاقاتها مع (إسرائيل) وتعزيز علاقاتها الخارجية والمحافظة على روابط انتقائية مع كردستان العراق.

في عام 1916، كانت الدولة السعودية الوليدة أيضا في طور النشأة حيث كانت تواصل الجهود في توحيد القبائل المختلفة في شبه الجزيرة العربية. وقد كانت بعض المناطق الأكثر اعتبارا واقعا تحت السيطرة العثمانية السابقة. ومع نجاحها في السيطرة على الرياض في مطلع القرن، فقد كان الشيخ «النجدي»، «ابن سعود»، يواصل العمل بشكل حثيث من أجل تركيز سيطرته مستفيدا من المساعدة البريطانية في الوقت الذي تتفكك فيه الإمبراطورية العثمانية. في عام 2016، وتحت القيادة الفعلية لواحد من أصغر أحفاد «ابن سعود»، فإن المملكة العربية السعودية تسيطر على الركن الأكثر ثراء من العالم العربي. ولكن مع انخفاض أسعار النفط، فإن المملكة قد صار عليها أن تختار بدقة مصارف ثرواتها النفطية. وبالتالي فإنه لم يعد بإمكانها أن تلتزم التزاما كاملا تجاه معارك لا يمكنها أن تفوز فيها (مثل الصراع في العراق) وبالأخص حين تكون تنفق بسخاء على الصراعات القريبة من ديارها مثل اليمن. اليوم فإن المملكة العربية السعودية قد شرعت في إعداد خطة طموحة لمحاولة تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط، المصدر الذي أسهم في صعودها كدولة، في الوقت الذي تحارب فيه ضد مجموعة كبيرة من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. ولكن حتى على الرغم من هذه العقبات، فإن المملكة حريصة على الحفاظ على وضعها كصوت مسموع في المنطقة كما تواصل السعي خلف مطالباتها بالقيادة السنية في العالمين العربي والإسلامي.

في إيران عام 1916، كانت الحرب العالمية الأولى تتزامن مع العقد الأخير للسلالة الفارسية القاجارية. كان على بلاد فارس أن تتعامل مع النفوذ الروسي والبريطاني في أراضيها كما ظهرت دلائل مبكرة على أن الوصول إلى النفط في البلاد يمكن أن يكون نعمة للتنمية المستقبلية. بالنسبة إلى القاجاريين، فقد كان القرن التاسع عشر يمثل قرنا للهزيمة حيث أسهم الاندفاع البريطاني والروسي إضافة إلى الضعف الداخلي في احتواء نزوعها الإقليمي نحو الشرق في حرات وكابول وبلوشستان. كان توسيع النفوذ دوما جزءا من عقيدة السلامة الوطنية الإيرانية. وبعد مرور مائة عام، فإن هناك إيران مختلفة جذريا تنشط في منطقة الشرق الأوسط وهي دولة لا تسعى اليوم إلى ضم أراضي مباشرة إلى أراضيها بقدر ما تسعى إلى بسط نفوذها على جيرانها من خلال التجارة، ولاسيما في آسيا الوسطى، ومن خلال دعم الميليشيات والحركات السياسية في سوريا، العراق، ولبنان واليمن.

وإلى الآن، فإن بعض القضايا التي أثيرت حول مفاوضات سايكس بيكو قد بقيت بلا جواب وظلت تركة الأسئلة الثقيلة حول السيادة والاستقلال الوطني تواجه تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية إلى الآن. أحد هذه الأسئلة هي الدولة الفلسطينية الممزقة التي نشأت نتيجة لوعد بلفور عام 1917، ثم هناك أيضا معضلة الدولة الكردية. وقد حفزت كلتا القضيتين الحركات العابرة للحدود الوطنية والحملات السياسية التي شابها العنف أحيانا. وأيا كان النظام السياسي الذي تم فرضه على المنطقة المتقلبة فإنها قد خبرت العديد من النظم التي تم رفضها وتغييرها. وعلى الرغم من أن سايكس بيكو سوف تبقى آثارها مطبوعة إلى الأبد على الخريطة السياسية للشرق الأوسط، فإن هناك بعض القوى قد سبقت وتجاوزت حدودها بالفعل.

المصدر | ستراتفور

  كلمات مفتاحية

ساكس بيكو الشرق الأوسط تركيا إيران السعودية الدولة العثمانية مصر بريطانيا فرنسا

خريطة: ما حققته حدود الدولة العثمانية وفشلت في تحقيقه حدود «سايكس بيكو»

بعد 100 عام.. الإرث الدامي لمعاهدة «سايكس- بيكو» لا يزال يطارد الشرق الأوسط

هل يحتاج الشرق الأوسط إلى حدود جديدة: تراث «سايكس بيكو» بعد مائة عام

هذا اللغط حول «سايكس بيكو» جديدة

الثابت والمتغير بعد مئة عام على «سايكس بيكو»

هل يمكن أن يجد الشرق الأوسط طريقه بعيدا عن «سايكس بيكو»؟

«نيويورك تايمز»: هل كان بإمكان حدود مختلفة أن تنقذ الشرق الأوسط؟