خيارات تركيا الاستراتيجية بين الشرق والغرب

الاثنين 22 ديسمبر 2014 07:12 ص

زار عددٌ من القادة البارزين على مستوى العالم تركيا على مدار الأسابيع القليلة الماضية.

مع نهايات شهر نوفمبر الماضي - على سبيل المثال - كان «جو بايدن» نائب الرئيس الأمريكي على موعد من زيارة تركيا لبحث التعاون ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا. كما جاء بعده في نفس الشهر الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين». وشهد ديسمبر زيارة ممثلة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي «فريدريكا موجريني». وتزامنت زيارتها مع زيارات أخرى لرئيسة ليتوانيا «داليا غريباوسكايتي»، ورئيس الوزراء البريطاني «ديفيد كاميرون»، ورئيس الوزراء الايطالي «ماتيو رينزي» الذي يشغل أيضًا رئاسة المجلس الأوروبي.

إقبال متزايد

ويبدو أن تركيا تشهد إقبالاً متزايدًا، ولكن ما هو الطريق الذي ستسلكه تركيا في الواقع: الشرق أم الغرب؟ يمثل الشرق العالم مع التركيز على الديمقراطية السيادية ورأسمالية الدولة والتسلط والشعبوية وصعود القومية المدفوعة دينيًا، على النقيض من الغرب المرتبط عادة بالديمقراطية الليبرالية والأسواق المبنية على سيادة القانون والشفافية والمساءلة. وتقدّم روسيا بوتين هنا تقريبًا جيدًا للشرق بالمقارنة مع مجتمع ضفتي الأطلسي الذي يمثل الغرب. وسيكون من المهم الحفاظ على وتيرة هذه الزيارات من أفراد المجتمع عبر الأطلسي ومطابقتها مع الأفعال لتنشيط علاقات تركيا مع الغرب؛ وخاصة العلاقات الاقتصادية.

وليس هذا الإقبال على تركيا بمدعاة للاستغراب؛ حيث إنها تجلس في وسط جيران يعانون حالة مزمنة من الاضطراب. فعبر البحر الأسود قامت روسيا بوتين بضمّ «شبه جزيرة القرم»، وتواصل عملياتها وتحركاتها المزعزعة للاستقرار في شرق أوكرانيا. كما تواصل روسيا في الوقت ذاته مد أمد الصراعات المُجمدة في الفضاء السوفيتي السابق من ترانسنيستريا في مولدوفا إلى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا وناجورني كاراباخ في أذربيجان.

من ناحية أخرى؛ فإنه لم يكن هناك تحد لتركيا أكبر من عدم استقرار العراق وسوريا. وتستضيف تركيا ما يقرب من مليوني لاجئ سوري، وتستبعد رؤية المعارضة المعتدلة تحوز اليد العليا وتحل محل بشار الأسد في دمشق. وفي المقابل؛ فإن ظهور «الدولة الإسلامية» زاد من تفاقم الوضع وأدى إلى تصوير تركيا في وسائل الإعلام الغربية بأنها تشارك بقوة في الجهود الرامية إلى تفكيك الدولة الإسلامية ثم هزيمتها في نهاية المطاف، وكذلك تحاول تقويض تلك الجهود في الوقت ذاته.

وغالبًا ما تكون الصورة الأخيرة مستندة في جزء منها إلى إحجام تركيا عن دعم المقاومة الكردية ضد هجوم «الدولة الإسلامية» على البلدة الكردية في «كوباني» الواقعة على الحدود السورية-التركية.  وذهب البعض إلى حد اتهام تركيا بمساعدة «الدولة الإسلامية» مباشرة. 

إن ما جلب «بايدن» إلى تركيا هو الحاجة إلى تحسين العلاقات مع تركيا، وتنسيق أفضل للقتال ضد «الدولة الإسلامية». وجاءت الزيارة في أعقاب خلافات سياسية عميقة بين الولايات المتحدة وتركيا حول كيفية التعامل مع التنظيم المُسلح. وركزت الولايات المتحدة على التهديد المباشر من «الدولة الإسلامية»، والحاجة إلى أن تكون تركيا أكثر استعدادًا وجاهزية للمساعدة في هزيمة المجموعة عسكريا. من جانبه؛ أصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ضرورة خلق إنشاء مناطق حظر طيران على طول الحدود التركية لزيادة الضغط على الأسد وإحداث تغيير في النظام.

وجلبت هذه الاختلافات العلاقات الثنائية إلى مستوى جديد عندما أعلن «بايدن» علنًا بأن أردوغان قد اعترف سرًا بأن سياسات تركيا فشلت في سوريا. وعجّلت هذه الملاحظة بنفي الجانب التركي بل ومطالبته لـ«بايدن» بالاعتذار.

ومع ذلك؛ فقد أثار التهديد من «الدولة الإسلامية» وعدم الاستقرار المتزايد في الشرق الأوسط نهجًا أكثر واقعية من كلا الجانبين، والذي استغله بايدن عندما قال: «نحن بحاجة إلى تركيا. وأعتقد وتعتقد تركيا أنها تحتاجنا كذلك». وسوف يكون الوقت كفيلاً بإظهار هل يتمّ ترجمة هذه الملاحظات والتصريحات إلى أفعال على أرض الواقع، وهل سيكون الطرفان قادران على تجاوز خلافاتهم وتحقيق تعاون استراتيجي أكبر.

تركيا وروسيا

جاءت  زيارة الرئيس الروسي «بوتين» إلى تركيا في غضون أسبوع من رحيل بايدن على خلفية تقليل تركيا من انتقاداتها لـ«بوتين» بشأن شبه جزيرة القرم وأوكرانيا. مثل هذه الاستجابة هي محيرة جدًا؛ خاصة أن «سلامة أراضيها» منذ فترة طويلة مبدأ مقدس للثقافة السياسية التركية.

لقد دأب المواطنون الأتراك منذ فترة طويلة على سماع تحذيرات بشأن المؤامرات التي تهدد سلامة تركيا الإقليمية ووحدتها. وأكثر شيء يصيب بالحيرة هو صمت تركيا إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك أقلية كبيرة من التتار في القرم تربطها روابط عرقية وتاريخية ودينية بتركيا. والأكثر من ذلك وضوحًا أن روسيا وتركيا لديهما سياسات متناقضة في سوريا: ففي الوقت الذي لا يتزحزح فيه بوتين قيد أنملة عن دعمه للأسد، فإن أردوغان يعتبر الأسد خصمًا لدودًا ويعتبر أن أي محاولة لتقديم تنازلات بمثالة خيانة.

ومن المحتمل أن صمت تركيا تجاه شبه جزيرة القرم راجع في جزءٍ يسير منه إلى اعتمادها الهائل على الطاقة الروسية؛ وخاصة الغاز الطبيعي. إن آفاق الغاز الروسي بالإضافة إلى قدرة روسيا على قطع طريق الغاز والنفط المتدفق عبر جنوب القوقاز جميعها أمور تبين بوضوح موقف تركيا من روسيا. وعلاوة على ذلك؛ فإن تركيا تدير العجز التجاري الهائل مع روسيا، ويمكن فقط تحقيق التوازن جزئيًا مع الدخل من السياحة الروسية في تركيا ومع الشركات التركية التي تمارس الأعمال التجارية في روسيا. وبناءً عليه؛ فإن الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا أصبح أمرًا لا غنى عنه اقتصادياً لتركيا.

وهناك الكثير مما يمكن قوله حول أسلوب قيادة «بوتين» والخطاب المعادي للغرب، والذي قرّبه من «أردوغان» وإلى حد ما مِن الشعب التركي. وقد تجلّى هذا بشدة في اجتماع سابق بين الزعيمين في سان بطرسبرج في نوفمبر 2013م. وخلال مؤتمر صحفي جاء الرد على تعليق «بوتين» أن «تركيا تمتلك خبرة كبيرة في محادثات الاتحاد الاوروبي»، وقال أردوغان: «أنت على حق، خمسون عاما من الخبرة ليست سهلة. افتحوا أبواب منظمة شنغهاي للتعاون أمامنا وخلصونا من هذه المشاكل».

وبوضوح؛ فقد كان «بوتين» ذكيًا في استغلال تذمر تركيا. فعلى سبيل المثال؛ في أعقاب عقوبات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية مؤخرًا ضد روسيا عرض «بوتين» على «أردوغان» إمكانية فتح الأسواق الروسية أمام مزيدٍ من الصادرات التركية، ما يسمح له تخفيف وطأة العقوبات على السلع الاستهلاكية، وفي الوقت ذاته إثارة شهية الشركات التركية التي فقدت أسواقها في منطقة الشرق الأوسط. وقد رافق هذا وعدًا باستبدال مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي «ساوث ستريم» المُلغى بآخر بديل لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا. ويستطيع أي شخص أن يرى بوتين وهو يسعى لإغراء تركيا بعيدًا عن الغرب، ويرفع من مستوى اعتمادها على روسيا.

تركيا والاتحاد الأوربي .. تقارب من جديد

وبناءً على تلك الخلفية تصبح زيارة «فريدريكا موجريني» مهمة من الناحية الاستراتيجية. علاقات تركيا المنطوية على مشاكل مع الاتحاد الأوروبي طغى عليها الجمود في مفاوضات الانضمام. ومن الناحية الفنية؛ فإنه لكي يكتمل انضمام تركيا فإن 33 ملفًا تمثل تشريعات الاتحاد الأوروبي ومجموعة قوانين وسياسات الاتحاد الأوروبي ينبغي أن يتم التفاوض بشأنها وإغلاقها.

كرواتيا؛ التي بدأت مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي مع تركيا في عام 2005 انتهت منها في أواخر عام 2011م وأصبحت عضوًا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي في يوليو من هذا العام. وفي حالة تركيا؛ تم تعليق ثمانية ملفات في ديسمبر عام 2006م من قبل الاتحاد الأوروبي، في حين أنه تمّ عرقلة تسعة ملفات من فرنسا وقبرص وألمانيا والنمسا. وتمّ فقط في الصيف الماضي فتح الملف الــ 14 أخيرًا للتفاوض بعد مماطلة مرة أخرى في عام 2010م.

ومع ذلك؛ فإن الفوضى المحيطة بتركيا تدفع الجانبين للتقارب. وأعرب الجانبان في خريف هذا العام عن رغبتهما في إحياء العلاقات. وقبيل زيارتها إلى تركيا - على سبيل المثال – أكدت «موجريني» على الأهمية الاستراتيجية للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، بينما كشف «يوهانس هان» - المفوض الأوروبي لسياسة الجوار الأوروبي ومفاوضات التوسع – على حرص الاتحاد الأوروبي على إعادة مفاوضات الانضمام مع تركيا إلى مسارها الصحيح. وفي السياق ذاته؛ ذكرت وثيقة الاتحاد الأوروبي الصادرة في شهر أكتوبر 2014 أن «مفاوضات الانضمام الفاعلة وذات المصداقية توفر الإطار الأنسب لاستغلال الإمكانيات الكاملة للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا». وجاء رأي مماثل من أنقرة عندما أعلن «أردوغان» أن عام 2014 هو العام الذي تلتزم فيه تركيا والاتحاد الأوروبي بإحياء عملية الانضمام. وفي وقت لاحق، أعلن - السفير «فولكان بوزكير» - وزير شئون الاتحاد الأوروبي وكبير المفاوضين – «استراتيجية الاتحاد الأوروبي الجديدة الخاصة بتركيا» في بروكسل في سبتمبر عام 2014م، وأسهب كاشفًا التدابير الواجب اتخاذها لتحسين العلاقات بين البلدين.

وتميل العوامل الاقتصادية والرأي العام في تركيا بشكل إيجابي إلى حدوث تحسن في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. فحتى عام 2013م؛ حافظ الاقتصاد التركي على نموه قويًا. ورغم ذلك؛ فإنه يواجه منذ ذلك الحين تحديات لا تُعد ولا تُحصى، بما في ذلك التباطؤ العام في الاقتصادات الناشئة حول العالم وعدم الاستقرار الإقليمي. كما تمت الإشارة إلى تراجع الديمقراطية وإضعاف سيادة القانون في كثير من الأحيان؛ والذي كان أثر سلبي على الاقتصاد التركي.

ومن غير المُرجح أن تتم معالجة هذه المشكلات عن طريق توثيق العلاقات مع روسيا. فصادرات تركيا إلى الاتحاد الأوروبي هي عشرة أضعاف صادراتها تقريبا إلى روسيا، وما يقرب من 70% من الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا يأتي من الاتحاد الأوروبي. وتأتي زيارة «موجريني» في وقت بدأ فيه الرأي العام في تركيا يتحوّل لصالح الاتحاد الأوروبي. ووفقا لــ «توجهات عبر الأطلسي» الصادرة في عام 2014 عن صندوق «جيرمان مارشال فند» أنه بعد سنوات متتالية من التراجع منذ عام 2006م، زاد عدد هؤلاء الأتراك الذين يتطلعون إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بنسبة 8% محققين 53% في عام 2014م. ويستشعر الجمهور التركي أن السياسات الاقتصادية والاعتبارات السياسية والاستراتيجية تجعل من الواضح تمامًا أن تركيا بحاجة إلى إعادة إلقاء نفسها بين أحضان المجتمع عبر الأطلسي.

وتحتاج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تعزيز هذا الاتجاه. وينبغي مطابقة كلمات «مونجريني» مع الأفعال. وبالتالي؛ فمن الأهمية بمكان أن يبادر الاتحاد الأوروبي بفتح عددٍ من الملفات الجديدة للتفاوض. وقد أعربت تركيا عن رغبتها في فتح ما لايقل عن ثلاثة ملفات تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية محلية. وفي حين أن عضوية تركيا ليست مرجحة الحدوث في أي وقت قريب، إلا إن الحفاظ على عملية ذات مصداقية هو أمر بالغ الأهمية. وفي غضون ذلك؛ فمن المهم البدء في تنفيذ توصية البنك الدولي بالنهوض بالاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وساعد الاتحاد الجمركي في جعل تركيا سادس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي فضلاً عن وضعها في الترتيب الــ 16 بين أكبر اقتصاديات العالم. كما أن هناك حاجة لزيادة الاعتراف من الاتحاد الأوروبي بأنه يستفيد من العلاقات الاقتصادية مع تركيا، خصوصًا في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الأوروبي لا يزال يكافح للخروج من الركود بالإضافة إلى تخفيف التأثيرات السلبية للعقوبات ضد روسيا على الصادرات.

وتواصل القيمة الاستراتيجية لعلاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي سعيها لأن تكون ذات أهمية أكبر، لا سيما في ضوء اشتداد المنافسة بين الغرب وروسيا وعدم الاستقرار العميق في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وفي عام 1995م لعبت الولايات المتحدة دورا رئيسيًا في دعم التفاوض والتوقيع على اتحاد تركيا الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك الدعوة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي كوسيلة لتعميق العلاقات التركية مع المجتمع عبر الأطلسي.

ويجب على الولايات المتحدة إعادة تنشيط هذه الجهود. علاوة على ذلك؛ يتحتم عليها أيضًا – والكلام عن واشنطن – إعادة إحياء فكرة توسيع الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي لتشمل تركيا أو التوقيع على اتفاقية التجارة الحُرة الثنائية مع تركيا. وهذا من شأنه المساعدة في إعادة إلحاق تركيا بالمجتمع عبر الأطلسي، وتوسيع مجتمع الأعمال مع حصة في القيمة السوقية الليبرالية، وجعل تركيا مساهمًا صريحًا في الاقتصاد عبر الأطلسي، والمساعدة في خلق فرص العمل، وزيادة التعاون الاستراتيجي. وبدوره؛ فإن علاقات أقوى وأعمق مع الغرب تساعد في إحياء الديمقراطية والاقتصاد في تركيا، فضلاً عن القوة الناعمة في جوارها. ولا يعني ذلك بالضرورة أن علاقات تركيا مع الشرق ستضعف. ويمكن الحفاظ على العلاقات مع روسيا بل وتوسيعها لكن دون وقوع تركيا تحت النفوذ الروسي. وبالمثل؛ يمكن لتركيا أن تعود إلى أيامها الخوالي في الشرق الأوسط عندما أُشيد بها كنموذج للمنطقة على المستويين الاقتصادي والسياسي.

المصدر | كمال كيريستشي، ناشونال إنتريست

  كلمات مفتاحية

تركيا روسيا الاتحاد الأوربي أردوغان فلاديمير بوتين أمريكا جو بايدن

«أردوغان» و«تميم» يدشنان شراكة سياسية وعسكرية استراتيجية بين تركيا وقطر

«أردوغان»: أمريكا أخطأت بإسقاط إمدادات عسكرية جوا للأكراد في «كوباني»

أردوغان في مواجهة إيران وعبثها ومعضلة سوريا

تداعيات قتال «الدولة الإسلامية» في «عين العرب» على تركيا

«أردوغان» يلمح لتغير موقف تركيا إلي المشاركة فى التحالف الدولي ضد الدولة الإسلامية

«جنبلاط» يدعو إلى "قوة عسكرية موحدة" و"نظام إقليمي جديد" يضم تركيا وإيران

«الدولة المركز»: ملامح السياسة الخارجية التركية في شرق أوسط مضطرب