جدة لا تغرق، جدة تسبح. انقطع الاتصال مع قناة العربية يوم قال الخبير في الطقس والمناخ «عبد الله المسند» الحقيقة.

المشكلة ليست سماوية. هذه كمية أمطار لا تؤدي إلى فيضانات. المشكلة على الأرض وليس في السماء. غرق جدة ليس سماويا إذاً.

ولا دخل لحكمة المولى بالموضوع، عقابا منه على تورط الشعب بالرذيلة. حتى أن الخبير قال لا دخل لظاهرة «إلنينيو» التي يحرص المسؤولون على ذكرها كلما استدعى الأمر حديثا عن سيول وغرق.

مرة أخرى غرقت جدة وملف فسادها ما زال مفتوحا. 30 ملم من الأمطار أحدثت كارثة. طرقات تحولت إلى أحواض سباحة. التقط المواطنون صورا لأنفسهم وهم يمارسون هوايتهم المفضلة في السباحة والتجديف.

لم يعتذر أحد.

قالوا إنّ نقصا في الإمكانات كان السبب. لكن ما الذي ينقص في بلاد الحرمين. مشاريع بملايين الريالات تُصرف منذ سنوات على إعادة تخطيط جدة. وفي كل عام يعد المسؤولون المدينة بعدم الغرق. وفي كل عام تخيب جدة ظنهم وتغرق. ما السبب؟ فإن لم يكن عقابا إلهيا، هل هو حسد دنيوي؟ قد يفسر السعوديون الغرق بألف تفسير. لكن ساعة يوضع الإصبع على الجرح تُصم الآذان. سوء تخطيط وفساد وبلع أموال أعدت لتنظيم المدينة. بنىً تحتية لم تنفذ. واستيلاء على مجاري السيول. الجشع في العمران وفي تخطيط الأودية والشعاب أفضى لسيول في مدينة تشتم المطر دون أن تتذوقه.

إنذارات بتوخي الحذر وعدم الخروج ونداءات من المساجد بالتزام البيوت. رسائل على الهواتف تحذرنا من الوقوف في مجرى السيول. قتلى وجرحى وإغلاق مدارس. وأحكام قضائية تتعلق بملفات فساد لم يبت أمرها بعد.

لماذا يحدث ذلك؟

تتكرر الحادثة بطريقة لافتة مع وعود دائمة بالحلول. عام 2009 أصيبت جدة بكارثة، غرقت الأحياء والشوارع ومات الناس داخل سياراتهم. واكتشف المواطنون وقتها أنهم يعيشون في مدينة لا تصريف للمياه فيها.

أغطية قنوات الصرف كانت بلا أنابيب. ظن المقاول أن رمل الصحراء سيمتص الماء. غرقت المدينة وطفا جبل الفساد على السطح. وتمت محاكمة مسؤولين وَحُكِمَ على بعض المدانين بالسجن سنوات.

ظلت جدة في الواجهة كل عام، تتابع أخبار المحاكمات والدعاوى والاستئناف. وفي كل عام لها حصة من الغرق. بالرغم من توكيل أرامكو واستلام وزارة الطاقة والمياه لمشاريع تصريف المياه وتأسيس بنى تحتية للمدينة.

الاعتراف صعب

يصعب على المملكة الاعتراف بوجود خلل. الذهنية المتشبثة بالصح، وبإلقاء اللوم على الآخرين، هي السائدة في طريقة إدارة الأمور في ربوع الصحراء.

كأن أحدا سيعاقب السعودية إن قالت نحن نتأسف، وقع خطأ، سنحقق ونصلح ونعمل على عدم حصول الخلل. يوم وقعت الرافعة، رموا بالذنب على الإله.

هذه مشيئة الرب قالوا، أن يطحن الناس في أقدس البقاع. وبالرغم من فتح تحقيقات، لكن لا نتائج فيها. وتنام القضية كالعادة دون محاسبة المقصرين ما دام تمّ التعويض على الضحايا بالكثير من الأموال.

ويوم تدافع منى كان المسؤولون يباركون على الإذاعة السعودية الرسمية بنجاح موسم الحج. لا يهم. المملكة تنجح دوما. لا يمكن لخطواتها أن تكون ناقصة. هي ألقت باللوم على الحجيج أنفسهم..

لهفتهم وعدم اتباعهم النظام والإرشادات هما ما أديا إلى الكارثة. فتحت التحقيقات كالعادة. وعداد الموتى توقف على الرقم سبعمئة أو أزيد بقليل. رغم أن وكالات عالمية أكدت حسب معطيات من الدول التي مسها الحادث أن العدد يزيد عن الأربعة آلاف.

حتى أزمة السكن في السعودية اعتبرها وزير الإسكان مشكلة فكر. المواطنون السعوديون هم السبب. عدم قدرة السعودي على شراء منزل وبقاؤه رهينة سماسرة الإيجار ليسا أبدا نتيجة تقصير من الدولة، ولا ارتفاع سعر الأراضي، ولا احتكار التجار، «أزمة السكن هي أزمة فكر».

لا أحد عرف كيف يربط الفكر بعدم القدرة على الحصول على مسكن. لا تقصير أبدا يصدر عمن هم في موقع القرار. التقصير ينحصر دوما بالضحية. المسؤول الوحيد هو المواطن المقصر في تدبير أموره في هذه البلاد.

لكن قد لا تكتشف السعودية من يقف وراء غرق مدينة، لن تستطيع تحديد الفاعل، بالمقابل فهي تستطيع أن تلقي القبض على مغرد طالب بإطلاق سراح معتقلين سياسيين أُلبِسوا تهماً فضفاضة.

وتستطيع أن تحكم بالإعدام على شاعر فلسطيني بتهمة انتهاك الذات الإلهية. أما الذات البشرية فلا أحد يهتم هنا، إن غرقت أو نامت بالعراء أو قضت عمراً تدفع أقساط الإيجار.

* نورة بنت عفش باحثة اجتماعية من السعودية