عن النفط والسعودية وأمريكا

الأحد 1 مارس 2015 05:03 ص

سَجّل سعر برميل النفط خلال الشهر الماضي ارتفاعا لافتا فوصل حدود 62 دولاراً بعدما لامس حدود 48 دولارا للبرميل الواحد خلال الأسابيع القليلة الماضية. يُعدّ هذا الارتفاع طفيفاً للغاية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الخام فقد نصف سعره منذ حزيران/يونيو الماضي عندما كان سعره في السوق العالميّة 105 دولارات للبرميل.

أطلقت صدمة الأسعار المستمرّة منذ ذلك الوقت موجة محمومة من المُراجعات في دوائر صنع القرار الرسميّة والمؤسسّات الماليّة حول العالم، واضطرّت كُبريات شركات الاستشارات المُتخصّصة، التي تلعب دوراً مهمّا في "صناعة" توقّعات السوق، إلى تعديل نماذجها الكليّة مرّة تلو الأخرى لمُواكبة الانخفاض المُطّرد في سعر الذهب الأسود.

يكفي التذكير مثلا بأنّه حتّى وقتٍ قريب، كان الجدل الواسع والمُستعر بين خبراء الصناعة النفطيّة والمعلّقين الاقتصاديّين يدور حول سؤال إذا ما كان سعر البرميل سيستقر عند حدود الـ70 دولاراً قبل أن يُعاود صعوده مُجدّدا. تلك الأيّام أصبحت من الماضي الآن، ولعلّ أهمّ درس يُمكن لأيّ شغوفٍ بالاقتصاد أن يتعلّمه منها هو أنّه يجب عدم الوقوع تحت سحر الثقة المُطلقة بإمكانيّة التنبّؤ بأسعار النفط.

ورغم ذلك، ونظراً للطبيعة الحساسة لسوق النفط، فإنّ ارتفاعات كالتي شهدتها الأسعار خلال الأسبوع الماضي تستحقّ التأمّل، لأنّها لا تعكس تغيّرات ناجمة عن المضاربة، التي تؤثّر على حركة الأسعار في المدى القصير فقط، بل لأنّها توحي بتغيّر في الظروف الهيكليّة في صناعة النفط نفسها، ما يُؤثّر على معادلة الطلب والعرض الكليّة التي تحكم الأسعار. تقول منظمة "أوبك" في تقريرها الشهري إنّها تتوقّع ازدياد الطلب على نفطها بـ400 ألف برميل هذا العام، ليصل إنتاجها الكلّي إلى حوالى 29 مليون برميل يوميّا.

ورغم أنّ المنظمة تتوقّع في التقرير نفسه زيادة إنتاج النفط بحوالي 850 ألف برميل من الدول خارج مظلّتها، إلا أنّها تُشير الى أنّ الزيادة التي ستحقّقها الدول في هذا العام ستبقى أقلّ بمقدار النصف عن الزيادات التي تحقّقت خلال العام الماضي، ما يُشير بدوره إلى أنّ سياسة "أوبك" للإبقاء على مستوى إنتاجها دون تغيير بدأت بالعمل، وأنّها دفعت بالمنتجين الآخرين إلى ضخّ الخام بوتائر أبطأ.

لهذه التوقّعات ما يدعمها في الواقع. فقد تراجع عدد الحفّارات النشطة في حقول داكوتا الشماليّة التي تُنتج "النفط الصخري"، وبدأت الشركات الأميركيّة الصغيرة في تكبّد المصاعب، خاصّة أنّها اعتمدتْ في توسيع أعمالها خلال ثورة النفط الصخري في الأعوام الماضية على الديون اعتماداً كثيفاً. أمّا الشركات الكبرى فقد بدأت بتسريح آلافٍ من عمّالها ضمن خطّة لخفض استثماراتها بمليارات الدولارات حول العالم، ما يُعزّز الاعتقاد أنّ استمرار هذه الوتيرة سيحقّق هدف "أوبك"، وفي القلب منها السعوديّة، في الحفاظ على حصّتها السوقيّة عند أسعار مُنخفضة عبر إبعاد اللاعبين الذين لا يستطيعون التواؤم مع هذه الأسعار.

لكن، ودون الوقوع في خطأ التنبّؤ بما سيكون عليه سعر النفط في المستقبل القريب، فإنّ الصدمة الأخيرة في سوق الطاقة العالمي تُغري بالتقدم ببضعة استنتاجات أوّلية.

الأوّل أنّ دوافع القرار السعودي بعدم خفض إنتاج "أوبك" لم تُحرّكها اعتبارات "المؤامرة" بقدر ما حرّكتها اعتبارات السوق، الذي أدرك السعوديّون أنّ كفّته بدأت بالميل ضدّهم بسبب الانخفاض البطيء ولكن المستمر في تكاليف إنتاج النفط خارج حقول الخليج العربي، ما يعني دخول لاعبين جُدد يزاحمونها على حصّتها في السوق.

الثاني أنّ قدرة حقول "النفط الصخري" على الاستمرار بضخّ النفط، وإن بوتائر أقل، عند 50 دولارا للبرميل هو بحدّ ذاته إشارة دالة إلى الشوط الطويل الذي قطعته الصناعة النفطيّة الأميركيّة في تخفيض تكاليف الإنتاج عبر تطوير تكنولوجيّات تنقيب متطوّرة، وهو الاتّجاه الذي سيُغيّر مع الوقت من هيكل الطاقة في أميركا عبر تقليص اعتمادها على واردات النفط (تخلّت الولايات المُتحدة مؤخّرا عن مليون برميل كانت تستوردها من نيجيريا يوميّا).

الثالث أنّ تعميم هذه التكنولوجيّات ربما يقود مستقبلا إلى استغلال مصادر الطاقة غير التقليديّة كالنفط والغاز الصخريّين (تختزن الصين والجزائر احتياطيّات مُعتبرة من الأخير)، ما سيُحدِث تحوّلا في خريطة المُنتجين ويجعل سوق الطاقة أكثر تعدّدية في المُحصّلة النهائيّة.

قد تُشجّع هذه الاستنتاجات على التحمّس للأطروحة التي تقول بأنّ انخفاض اعتماديّة أميركا على النفط المستورَد سيقود إلى تغيير شكل علاقتها مع الخليج العربي عموما ومع السعوديّة بوجه خاص.

لكنّ هذه الحماسة يجب ألا يَغفل عن أنّ جذر هذه العلاقة لا يكمن في برميل النفط نفسه فحسب، بل في العوائد التي تتحقّق من بيعه، والتي تُعاود الدول الخليجيّة ضخّها في الأسواق الأميركيّة عبر شراء سندات الخزانة الحكوميّة، وعبر استثمار أموال صناديقها السياديّة في مشاريع ضخمة في الغرب، ناهيك عن تمويلها للصناعات الكبيرة في الولايات المُتحدة، كصناعات السلاح والطيران.

للعلم، السعوديّة والإمارات أكثر دول العالم إنفاقاً على التسلّح، أمّا صناعة الطيران الأميركيّة فإنّها تعتاش بشكل رئيسي على الصفقات الخيالية مع دول الخليج والتي بلغت قيمتها مجتمعة ما يتجاوز 150 مليار دولار خلال السنوات القليلة الماضية..

وبهذا المعنى، فأيّا كان المكان الذي تُصدِّر له السعوديّة نفطها، فإنّ العلاقة معها، من المنظور الأميركي، تجري على ما يشبه منطق مقولة هارون الرشيد عن الغيمة الماطرة: "أينما صبّت يأتينا خراجها".

السيسي كان صادقا ومسلّما بالأمر الواقع حين قال "عندهم فلوس زي الرز". لربما سيكون على الذين لا يريدون التسليم بالواقع، أولئك الذي يطمحون لتغييره، بأن يسلّموا في المقابل بأنّ الطريق إلى تفكيك الهيمنة الخليجيّة في المنطقة مشروطٌ عضويّا بتغيّر شكّل النظام الاقتصادي العالمي الذي تُهيمن عليه أميركا.

* رامي خريس باحث إقتصادي

  كلمات مفتاحية

السعودية أمريكا أسعار النفط أوبك اقتصاد العالم عوائد النفط السندات

توقعات بوصول إنتاج الولايات المتحدة من النفط إلى 9.3 مليون برميل يوميا في 2015

احتياطات النفط السعودية قد تكون أعظم أسرار المملكة

سرعة تقليص انتاج النفط الصخري في أمريكا قد تخفض الانتاج العام قريبا

«ذي إيكونوميست»: مخطط السعودية النفطي يدخل مرحلته الثانية ويهدد المنافسين

«أوبك» تدرس عقد اجتماع طارئ لدراسة انخفاض أسعار النفط .. والسعودية ترفض

أمريكا تخفي مخزون نفطي يقدر بـ696 مليون برميل بعيدا عن الأنظار

في أسباب وتجليات انخفاض سعر النفط

«واشنطن بوست»: الصداقة القوية بين السعودية وأمريكا أصبحت «في فعل الماضي»

«ميدل إيست آي»: لماذا تصمد العلاقات الأمريكية السعودية رغم العقبات؟

8 مليارات دولار حجم ‏التبادل التجاري بين ⁧‫السعودية وأمريكا‬⁩ مطلع 2016