وثائق «دير شبيجل»: القصة الكاملة لـتأسيس «الدولة الإسلامية» على يد ضابط مخابرات عراقي

السبت 25 أبريل 2015 08:04 ص

ضابط عراقى خطط لبسط سيطرة «الدولة الإسلامية» فى سوريا، وقد استطاعت مجلة «ديرشبيجل» الحصول حصريا على أوراقه. ترسم تلك الأوراق صورة مختلفة لتنظيم الدولة، الذى يظهر وكأنه تنظيم يدفعه التعصب الديني، بينما هو يخطط بدقة لتحقيق أهدافه.

منعزل ومهذب، متملق وحاضر الذهن وقادر على ضبط النفس بالإضافة إلى أنه غير أمين وغامض وخبيث. هكذا يتذكر المعارضون في شمال سوريا، لقاءاتهم مع الرجل ناعتين إياه بصفات مختلفة ومتناقضة. لكنهم اتفقوا على أمر واحد: «لم نعرف أبداً مع من بالضبط كنا نجلس».

لم يعرفه حتى من قتلوه في تبادل لإطلاق النار في بلدة «تل رفعت» في صباح أحد أيام يناير/كانون الثاني 2014، ولم يستطيعوا تحديد الهوية الحقيقية للرجل الخمسيني الطويل. لم يدركوا حينها أنهم قتلوا الرأس المدبر والعقل الاستراتيجي للمجموعة التي تطلق على نفسها «الدولة الإسلامية». في الواقع ما حدث كان نتيجة خطأ نادر الحدوث لكنه مدمر ارتكبه ذلك المُخطط العبقري. خطط المعارضون لدفنه بعد وضع جثته لثلاثة أيام في غرفة تبريد. ثم أدركوا لاحقاً مدى أهمية هذا الرجل فتركوا جثمانه بالخارج مجدداً.

كان «سمير عبد محمد الخليفاوى» هو الاسم الحقيقى للعراقى الذى توارت ملامح وجهه النحيلة وراء لحية بيضاء. لم يعرفه أحد بهذا الاسم، وحتى اسمه الأكثر شهرة، «حجى بكر»، لم يكن معروفا بين كثير من الناس. كان ذلك تحديدا جزءا من الخطة حيث أدار العقيد السابق فى جهاز مخابرات القوات الجوية العراقية التابعة لنظام «صدام حسين» تنظيم «الدولة الإسلامية» سراً لسنوات.

 ذكر اسمه الأعضاء السابقون في التنظيم كأحد قادته، ومع ذلك لم يتضح أبداً دور الرجل بالتحديد.

وثائق خطيرة

عندما مات العقل المخطط لتنظيم «الدولة الإسلامية» ترك شيئاً ورائه طالما أراد أن يظل في سرية تامة، وهو خطة عمل هذا التنظيم. هي عبارة عن ملف به الهيكل التنظيمي والجداول والقوائم المكتوبة بخط اليد التي تشرح كيفية إخضاع دولة ما تدريجياً. توصلت صحيفة «دير شبيجل» الألمانية  إلى 31 صفحة وكان العديد منها صفحات ملتصقة ببعضها. وتوضح الأوراق التكوين المتدرج وتوجيهات العمل، وتم تجربة بعض تلك الطرق بالفعل بينما تم ابتكار طرق أخرى للتعامل مع الموقف الفوضوي في الأراضي السورية التي تسيطر عليها المعارضة. بمعنى آخر هذه الوثائق هي عبارة عن الشفرة الرئيسية لأنجح جيش من الإرهابيين في التاريخ الحديث. 

حتى الآن، تأتي الكثير من المعلومات عن «تنظيم الدولة» من خلال المقاتلين المهزومين أو البيانات التى أتت من الإدارة الداخلية للتنظيم عقب محاصرته في بغداد. لكن لا يعطي أي منهم تفسيراً واحداً للصعود الصاروخي للتنظيم، قبل الضربات الجوية في أواخر صيف 2014 التي وضعت حداً لمسيرة التنظيم. 

لأول مرة،  بعد الحصول على وثائق «حجي بكر»، أصبح من الممكن الوصول لنتائج عن كيفية ترتيب القيادة داخل تنظيم «الدولة الإسلامية» وعن الدور الذي يلعبه المسئولون السابقون في حكومة الديكتاتور السابق «صدام حسين» داخل التنظيم. وفوق كل ذلك، أوضحت الوثائق طريقة التخطيط للإستيلاء على شمال سوريا مما جعل عملية التقدم في العراق لاحقاً ممكنة. وعقب أشهر من البحث الذى أجرته «ديرشبيجل» في سوريا، بجانب تسجيلات تم الكشف عنها حديثاً وحصرياً للمجلة، اتضح كيف أن التعليمات الواردة في وثائق «حجي بكر» تم تنفيذها بدقة.

كانت وثائق «بكر» مخبأة لفترة طويلة في منزل بشمال سوريا. كانت الأخبار الأولي حول وجود تلك الوثائق قد جاءت من شاهد عيان رآها في منزل «حجي بكر» بعد موته بفترة قصيرة. وفي إبريل/نيسان 2014 تم تهريب صفحة واحدة من الملف إلى تركيا، وهناك تمكنت «ديرشبيجل» من فحص الوثيقة للمرة الأولى. ومن ثم أصبح ممكناً الوصول إلى «تل رفعت»، وإخراج باقي الأوراق في نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

يقول الرجل الذي خزن تلك الأوراق بعد أن جمعها من أسفل صناديق وبطاطين قديمة: «كان القلق الأكبر هو أن تسقط تلك المخططات في الأيدي الخطأ ولا يعرف أحد عنها شيئاً». كان الرجل خائفاً من قتله بواسطة «تنظيم الدولة»،  وأراد أن تبقى هويته غير معروفة.

الخطة الرئيسية   

بدأت قصة تلك الوثائق في وقت كان قليلون فقط هم من يعرفون بوجود تنظيم «الدولة الإسلامية». غادر العراقي ذو الميول القومية «حجي بكر» إلى سوريا كجزء من مجموعة تمهيد صغيرة (مقاتلون يسبقون القوات النظامية لتمهيد ساحة المعركة) في أواخر 2012، لتنفيذ خطة تبدو مستحيلة. وهى أن «الدولة الإسلامية» تستولي على أكبر مناطق ممكنة في سوريا، ثم تستخدم سوريا كنقطة إنطلاق لغزو العراق.

أقام «بكر» في مكان خفي بـ«تل رفعت»، شمال حلب وكانت البلدة خياراً جيداً. ففي الثمانينيات توجه كثير من سكانها إلى العمل في الدول الخليجية وخاصة السعودية. وعاد بعضهم بأفكار وعلاقات متطرفة. وفي عام 2013، كانت «تل رفعت» المعقل الحصين للدولة الإسلامية في حلب مع تمركز المئات من المقاتلين فيها.

في «تل رفعت»، عاش «ملك الظلال» كما يطلقون عليه، ورسم هيكل «الدولة الإسلامية» من القمة إلى المستوى المحلي وجمع قوائم متعلقة بالتسلسل التدريجي للقرى والمناطق التي سيسيرها التنظيم. استخدم في ذلك قلماً من الحبر الجاف، ورسم تسلسل القيادة في الأجهزة الأمنية. الأوراق التي رسم عليها التسلسل كانت تتبع وزارة الدفاع السورية وتزينت بشعار القسم المسؤول عن الإقامة والأثاث، ويفترض أن ذلك بمحض الصدفة.

ما وضعه «بكر» على الأوراق بعناية ومنه شرح المسؤوليات الفردية لم يكن إلا مخططاً للوصول إلى السلطة. لم تكن مجرد وثيقة، لكنها خطة دقيقة من «مخابرات الدولة الإسلامية» التي يمكن تشبيهها بوكالة الاستخبارات الداخلية (شتازي) سيئة السمعة في ألمانيا الشرقية.

 نُفذ المخطط بدقة مذهلة في الأشهر التي تلت إعداده. وتبدأ الخطة بنفس التفاصيل: تقوم المجموعة بتجنيد الأتباع تحت غطاء افتتاح مكتب للدعوة. ويتم اختيار رجل أو اثنين من بين  الذين يحضرون للاستماع إلى المحاضرات ودروس حول الحياة الإسلامية. تم بالفعل اختيار رجل أو اثنين وتلقوا التعليمات بالتجسس على قريتهم والحصول على قدر كبير من المعلومات. وكتب «حجي» قوائمه بالشكل التالي:

- قوائم بالعائلات ذات النفوذ القوي.

- تحديد الأفراد الأقوياء في تلك العائلات.

- تحديد أسماء وحجم الكتائب المتمردة في القرية.

- إيجاد أسماء قادة الكتائب، الذين يتحكمون فيها وتوجههم السياسي.

- البحث عن أنشطتهم التى لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية، والتي قد يمكن استخدامها لابتزازهم وقت الضرورة.

تم تكليف الجواسيس بتدوين تلك التفاصيل مع ذكر ما إذا كان الشخص قد ارتكب جرائم أو مثلي جنسياً، أو حتى يشترك في أعمال سرية حتى يمكن استخدام ذلك في ابتزازه مستقبلاً. و دون «بكر» ملحوظة نصها: «سنجعل من الأشخاص الأذكياء شيوخاً للشريعة. سوف ندربهم لفترة ثم نوفدهم».

 وحسب الوثائق فقد أضاف أن بعض «الأخوة»سيتم اختيارهم في كل بلدة للزواج من بنات أكثر العائلات ذات النفوذ، من أجل «تأكيد التغلغل في تلك العائلات دون أن يدروا بذلك».

كان من واجب الجواسيس معرفة كل ما يستطيعون معرفته عن البلدات المستهدفة، مثل من يعيش هناك، ومن كان يسيطر عليها، وأي العائلات متدينة وإلى أي فقه ومذهب ينتمون، وكم عدد المساجد هناك، وأيضاً من هو الإمام وكم عدد زوجاته وأطفاله وأعمارهم. وتشمل باقي التفاصيل معلومات عن الخطب التي يلقيها الإمام وهل هو منفتح على الصوفية أم على نهج مختلف. وأيضاً ما إذا كان يقف بجانب المعارضة أم النظام وما هو موقفه من الجهاد.

أراد «بكر» أيضاً أن يعرف إجابات أسئلة مثل، هل يحصل الإمام على راتب؟ ولو كان كذلك، فمن يدفع له؟ و من عينه في منصبه؟ و أخيراً، كم عدد الناس في البلدة الذين يناصرون الديمقراطية؟

أرسل هؤلاء العملاء لتعقب أصغر التفاصيل ومعرفة الأخطاء القديمة لأعمق طبقات المجتمع. باختصار، أي معلومة قد تستخدم لتقسيم السكان وإخضاعهم. كان من بين هؤلاء العملاء جواسيس عملوا مع المخابرات في السابق، وأيضاً معارضين للنظام الذين اختلفوا مع أحد الجماعات المتمردة. وكان بينهم أيضاً بعض الشباب والمراهقين الذين هم في حاجة إلى المال أو من وجدوا في هذا العمل شيئاً مثيراً. كان معظم العملاء أو المخبرين في قائمة «بكر» مثل جواسيسه في «تل رفعت» في بداية العشرينيات، وأيضاً كان منهم من هم في عمر 16 أو 17 عاماً.

شملت الخطة أيضاً مجالات كالتمويل، والمدارس، والرعاية اليومية، والإعلام بالإضافة إلى التنقل. لكن كانت هناك أهداف تتكرر باستمرار ويتم تناولها بدقة في الهيكل التنظيمي وقوائم المسؤوليات، وهي: الرصد، والتجسس، والقتل، والاختطاف.

كانت خطة «بكر» أنه في كل مجلس محلي سيكون هناك أمير أو قائد مسؤول عن مهام الإغتيال، والاحتجاز، والقنص، والاتصالات والتشفير. كما سيكون هناك أمير للإشراف على الأمراء الآخرين «في حال عدم قيامهم بعملهم جيداً» يمكن أن تكون بنية هذه الدولة عبارة عن تصور شيطاني لخلية من المقاتلين تم صنعها لنشر الخوف.

 منذ البداية كانت الخطة مبنية على وجود شبكات استخبارات تعمل بشكل مماثل حتى على مستوى المحافظات.  ويسلم قسم الاستخبارات العامة تقارير إلى «الأمير» المسؤول عن الأمن في المنطقة، ثم يقوم أحد رؤساء خلايا التجسس و«مدير الاستخبارات و المعلومات»  بالمقاطعة بتسليم تقارير إلى كل نواب الأمراء. أما خلايا التجسس على مستوى المحلي فترسل تقاريرها إلى نائب الأمير في المقاطعة.  كان الهدف من ذلك هو أن يراقب كل الأشخاص بعضهم البعض.

كما يسلم أيضاً المسؤولون عن تدريب «قضاة الشريعة في جمع المعلومات الاستخباراتية» تقاريرهم إلى أمير المقاطعة، ويتم تسليمها إلى أمير المنطقة من خلال قسم منفصل هو «ضباط الأمن».

كل ذلك يخدم هدفا واحدا: الإخضاع والسيطرة. حتى الكلمة التي استخدمها «بكر» في الحديث عن المسلمين الحقيقيين وهي (TAKWIN)  « التكوين» هي ليست بكلمة دينية بل تقنية، ترجمتها «تنفيذ» وهي كلمة لا تستخدم إلا في مجالات كالجيولوجيا أو البناء. وكان الكيميائيون الشيعة قد استخدموها عند وصف خلق حياة اصطناعية. 

أما بالنسبة لـ«حجي بكر» فكان الله والإيمان به الذي عمره أكثر من 1400 عام ليس إلا أحد النماذج الكثيرة تحت تصرفه ليرتبها كما يحب من أجل هدف أسمى.

البداية في العراق

  يبدو كما لو أن «جورج أوريل» كان هو المثال الذي يحتذى به هذا النموذج المجنون بمراقبة الجميع. لكن الأمر كان أبسط من ذلك لأن «بكر» كان فقط يدخل تعديلات على ما تعلمه في الماضي داخل أجهزة «صدام حسين» الأمنية المنتشرة في كل مكان. في تلك الأجهزة لم يكن حتى كبار قادة أجهزة الاستخبارات متأكدين من كونهم غير خاضعين للمراقبة.

وصف الكاتب العراقي المنفي «كنعان مكية» العراق بـ«جمهورية الخوف»، ووصف كيف كانت العراق دولة يمكن بكل بساطة أن يختفى فيها أي شخص. كما يمكن أن يختتم «صدام حسين» حفل تنصيبه الرسمي في عام 1979 بالحديث عن مؤامرة مزيفة.

هناك سبب بسيط يوضح لماذا لم يزعم «بكر» في كتاباته وجود نبوءات تدعم فكرة تأسيس «الدولة الإسلامية» باعتبارها أمرا إلهيا. يعتقد «حجي» أن أنصار المعتقدات الدينية المتطرفة وحدها لن يكونوا كافين لتحقيق الانتصار، لكن يمكن استغلال إيمان الآخرين.

في عام 2010، قام «بكر» ومجموعة من ضباط المخابرات العراقية السابقين بجعل «أبو بكر البغدادي»، الخليفة الحالي، قائداً لتنظيم «الدولة الإسلامية». وسبب ذلك هو أن «البغدادي» الداعية الذي تلقى تعليماً جيداً سوف يعطي للمجموعة وجهاً دينياً.

يقول الصحفي العراقي «هشام الهاشمي» إن «بكر كان قومياً وليس إسلامياً»، وكان «بكر» يعمل مع أحد أقاربه في قاعدة الحبانية الجوية. ويقول «هاشم» إن «العقيد سمير»، يقصد «بكر»، «كان شديد الذكاء، وحازماً وممتازا في الأمور اللوجيستية»، وأضاف أنه عندما قام «بول بريمر»، قائد قوات الإحتلال الأمريكية في العراق، بحل الجيش بقرار في مايو/أيار 2003، شعر بكر بالمرارة وكان بدون عمل.

انقطع دخل الآلاف من الجنود السنّة المدربين جيداً بجرة قلم. وبذلك صنعت أمريكا أكثر أعدائها مرارة وذكاءاً. اختفى «بكر» وقابل «أبو مصعب الزرقاوى» فى مقاطعة الأنبار غرب العراق. كان «الزرقاوى»، الأردني الأصل، قد أدار مخيم تدريب للإرهابيين الدوليين المهاجرين من أفغانستان. وبداية من 2013، نال شهره عالمية كالعقل المدبر للهجمات ضد الأمم المتحدة، وقوات الولايات المتحدة والمسلمين الشيعة. حتى أنه كان أكثر تشددا من «أسامة بن لادن» القائد السابق لتنظيم القاعدة. وقتل «الزرقاوى» خلال ضربات جوية أمريكية فى 2006.ورغم «بكر» أن حزب البعث المهيمن فى العراق علمانى، إلا أن النظامين قد تشاركا فى النهاية قناعة أن السيطرة على الحشود يجب أن تقع فى يد نخبة صغيرة  لا يستطيع أحد مساءلتها، لأنها تحكم بهدف تحقيق «خطة كبيرة»، وشرعيتها من الله أو مجد التاريخ العربى. يكمن سر نجاح «الدولة الإسلامية» فى جمع تلك التناقضات؛ الاعتقادات المتعصبة لمجموعة معينة والحسابات الاستراتيجية للأخرى.

أصبح «بكر» بالتدريج أحد القادة العسكريين فى العراق، وسجن من عام 2006 حتى 2008 فى سجن «بوكا» و«أبو غريب» التابعين لجيش الولايات المتحدة. نجا من موجات الاعتقالات والقتل من قبل الوحدات الأمريكية العراقية المتخصصة، وكان ذلك إنذار بوجود تنظيم الدولة الإسلامية فى 2010، الدولة الإسلامية فى العراق.

بالنسبة لـ«بكر» وعدد من الضباط ذوى الرتب الرفيعة، يمثل ذلك  فرصة لحصر السلطة فى دائرة صغيرة جداً من الجهاديين. استفادوا من الوقت الذى تشاركوه فى سجن «بوكا» لتأسيس شبكة كبيرة من المعارف. لكن القادة الأوائل عرفوا بعضهم بالفعل منذ وقت طويل. كان «حجى بكر » وضابط اخر جزءاً من وحدة استخبارات صغيرة مرتبطة بالقسم المضاد للطائرات. وكان اثنان آخران من قادة «الدولة الإسلامية» من التركمان السنة فى بلدة تل عفر. وكان أحدهما أيضاً ضابط استخبارات رفيع المستوى.

فى عام 2010، بدت فكرة محاولة هزيمة قوات الحكومة العراقية صعبة المنال. إلا أن منظمة سرية قوية تشكلت في ظل عمليات إرهابية وأنشطة مسلحة. وقد شعر قادة ذلك التنظيم أن الفرصة قد سنحت عندما اندلعت الانتفاضة ضد «نظام الأسد» فى سوريا المجاورة. وفي أواخر 2012، فى الشمال تحديدا، تعرضت قوات الحكومة ذات السلطة الهائلة سابقاً لهزيمة كبرى وطردت. وحل محلها الآن المئات من المجالس المحلية وكتائب المعارضة المسلحة، التى أصبحت جزءاً من مزيج فوضوى لم يتمكن أحد من تتبعه. كانت حالة من الضعف سعت الجماعة المنظمة من الضباط السابقين لاستغلالها.

محاولات تفسير وصول «الدولة الإسلامية» السريع إلى السلطة تختلف بناءاً على من يقوم بالشرح. ويرى خبراء الإرهاب أن «الدولة الإسلامية» فرع من القاعدة ويرجعون غياب الهجمات الكبيرة حتى الآن لما يرونه كنقص لقدرات المنظمة. بينما يرى علم الجريمة «الدولة الإسلامية» كشركة قابضة مكونة من عصابات المافيا تسعى لجني أقصى ربح ممكن. بينما يشير الباحثون فى العلوم الإنسانية إلى أن خطابات قسم إعلام «الدولة الإسلامية»، التى تمجد الموت والإيمان تشير إلى أن «الدولة الإسلامية» تشارك في تنفيذ مهمة مقدسة.

لكن الخطابات التى تمجد الموت وحدها ليست كافية للاستيلاء على المدن والسيطرة على الدول. الإرهابيون لا يؤسسون دولاً. والعصابات الإجرامية من غير المرجح أن تحمس مؤيديها حول العالم، كما يفعل «تنظيم الدولة» الذى يبدو مؤيدوه مستعدين  للتخلى عن حياتهم والسفر إلى دولة «الخلافة» رغم احتمالات تعرضهم للقتل.

لدى «الدولة الإسلامية» القليل من القواسم المشتركة مع أسلافها مثل تنظيم القاعدة بعيداً عن التوصيف الجهادى. بالأساس ليس هناك أى شىء دينى فى أفعالها، تخطيطها الاستراتيجى، تبديلها للتحالفات دون احترام لأي مبادىء ورواياتها الدعائية المنفذة بدقة. وحتى الإيمان، حتى فى أكثر أشكاله تطرفاً، هو مجرد أحد وسائلها لتحقيق أهدافها. المبدأ الوحيد الثابت لدى «الدولة الإسلامية» هو التوسع فى السلطة بأى ثمن.

تنفيذ الخطة

بدأ توسع تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل غامض، حتى أنه بعد عام، كان على العديد من السوريين التفكير للحظة فى الوقت الذي ظهر الجهاديون فيه وسطهم. وكانت مكاتب «الدعوة» تبدو بريئة ولا تختلف كثير عن الجمعيات الإسلامية المنتشرة حول العالم، وقد افتتح العديد من فروعها في مدن شمال سوريا خلال ربيع 2013.

عند افتتاح مكتب الدعوة فى الرقة، «كل ما قالوه هو أنهم (أخوة)،  ولم يقولوا كلمة أبداً عن (الدولة الإسلامية)»، وذلك وفقاً لما ذكره طبيب هارب من المدينة. كما افتتح أيضا مكتب دعوة فى بلدة منبج بمقاطعة حلب، فى ربيع 2013.  ويتذكر شاب من النشطاء المدافعين عن الحقوق المدنية: «لم ألحظها حتى فى البداية. كان مسموحا لأى شخص بفتح ما يريد. لم نتخيل أبداً إمكانية أن يمثل أحد تهديداً لنا أكثر مما فعل النظام. علمنا فقط عند اندلاع الحرب فى يناير بقيام تنظيم الدولة الإسلامية بتأجير العديد من الشقق بالفعل حيث يمكنهم تخزين الأسلحة وتخبئة رجال التنظيم».

كان الموقف مماثلاً فى بلدات الباب، وأتارب وأعزاز. كما افتتحت مكاتب الدعوة فى مقاطعة أدلب المجاورة فى أوائل 2013، فى بلدات سرمدا، وأطمه، وكفر تخاريم، والدانا وسلقين. وأعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» عن وجوده بمجرد تعرفه على «طلاب» كافيين يمكن تجنيدهم كجواسيس. فى بلدة الدانا، تم تأجير مبان إضافية، ورفعت الأعلام السوداء وأغلقت الشوارع. فى البلدات التى كان بها سكان كثيرون أو لم يتمكن التنظيم من تأمين مؤيدين كافيين له، اختارت «الدولة الإسلامية» الانسحاب مؤقتاً. فى البداية، كان أسلوب عملها هو التوسع بدون المجازفة بمقاومة مفتوحة، وخطف أو قتل «الشخصيات المعادية لها»، بينما تنفى أى مشاركة فى هذه الأنشطة الشنيعة.

 كان المقاتلون أنفسهم غير واضحين فى البداية. ولم يحضر «بكر» المقاتلين من العراق، لأن ذلك كان سيشير إلى شىء ما. فى الواقع، لقد منعوا بالتحديد مقاتليهم العراقيين من الذهاب إلى سوريا. كما اختاروا أيضاً عدم تجنيد الكثير من السوريين. واختار قادة «الدولة الإسلامية»  أكثر الخيارات تعقيداً حيث قرروا جمع كل الأجانب المتطرفين الذين كانوا يترددون على المنطقة منذ صيف عام 2012. طلاب من السعودية، وموظفون من تونس ومتسربون من التعليم في أوروبا وكلهم بدون خبرات عسكرية حتى يكونوا جيشا بمعاونة من الشيشانيين والأوزبكستانيين أصحاب الخبرات السابقة في المعارك. وسيكون مركزه فى سوريا تحت القيادة العراقية.

بالفعل بنهاية 2012، أقيمت العديد من المعسكرات الحربية فى العديد من الأماكن. فى البداية، لم يعلم أحد ما المجموعات التى ينتمون إليها. كانت المعسكرات منظمة بشدة والرجال هناك جاءوا من العديد من الدول، ولم يتحدثوا للصحفيين. قليلون للغاية منهم كانوا من العراق. تلقى القادمون الجدد شهرين من التدريب وتم تدريبهم على الطاعة العمياء  للأوامر العليا. كان التجهيز غير لافت وبه ميزة أخرى أيضاً: أنها كانت كتائب مخلصة تماماً.  لم يعرف الأجانب أحداً خارج رفاقهم، ليس لديهم سبب لإظهار الرحمة ويمكن نقلهم بسرعة للعديد من الأماكن المختلفة. وهذا يختلف تماما مع طبيعة المعارضة السورية التى يركز أفرادها على الدفاع عن بلدهم وعليهم الاعتناء بعائلاتهم والمساعدة بموسم الحصاد. فى خريف 2013، أشارت وثائق «الدولة الإسلامية» إلى وجود 2650 مقاتلا أجنبيا فى مقاطعة حلب وحدها. يمثل التونسيون ثلثهم، ثم السعوديين، والأتراك، والمصريين، وبأعداد قليلة، الشيشانيين، والأوروبيين والإندونيسيين.

لاحقاً ايضاً، فاق عدد المعارضة السورية المسلحة بشدة أعداد الكوادر الجهادية. ورغم شكوك المعارضة المسلحة في الجهاديين، لم تواجه «الدولة الإسلامية» لأن مقاتلي المعارضة لم يرغبوا في فتح جبهة أخرى. «الدولة الإسلامية»، رغم ذلك، زادت نفوذها بخدعة بسيطة: وهي ارتداء الرجال دائماً لأقنعة سوداء، وهو ما لم يجعلهم مرعبين فقط، بل جعلت عددهم الفعلي غير معروف للكثيرين. عندما ظهرت مجموعات مكونه من 200 مقاتل فى خمسة أماكن مختلفة واحد تلو الأخر، هل يعني هذا أن «الدولة الإسلامية» لديها 1000 شخص؟ أو 500؟ أو فقط أكثر بقليل من 200؟. يضاف إلى ذلك أن الجواسيس دائما ما كانوا يبلغون القيادة عن المناطق حيث الكثافة السكانية ضعيفة أو السكان منقسمين أو توجد صراعات محلية، ما يسمح لـ«تنظيم الدولة» أن يقدم نفسه كقوة حماية  فى سبيل الحصول على موطىء قدم.

الاستيلاء على الرقة

الرقة، فى السابق كانت مدينة خاملة تقع على نهر الفرات، وكانت النموذج الأول لاستيلاء «تنظيم الدولة» بشكل كامل على مدينة. بدأت العملية بدقة، تدريجياً أصبحت أكثر وحشية، وفى النهاية، تغلبت الدولة الإسلامية على خصوم أكبر بدون الكثير من القتال. شرح الطبيب الذى اضطر للهرب من الرقة لتركيا: «لم نكن نهتم كثيرا بالسياسة.. ولم نكن أيضاً متدينيين ولم نكن نصل كثيراً».

عندما سقطت الرقة فى يد المعارضة المسلحة فى مارس 2013، تم انتخاب مجلس مدينة بسرعة. ونظم المحامون، والأطباء والصحفيون أنفسهم. تم تكوين مجموعات نسائية. وتم تأسيس جمعية الشباب الأحرار، كما تأسست حركة «من أجل حقوقنا»،  والعشرات من المبادرات الأخرى. بدا كل شىء ممكناً فى الرقة. لكن فى نظر بعض ممن هربوا منها إلى ذلك المشهد باعتباره بداية سقوط المدينة.

تنفيذا لخطة «حجى»، بدأ الأمر بمرحلة التسلل ثم إبعاد كل شخص من الممكن أن يكون قائداً محتملاً أو خصما. أول شخص وجهت إليه ضربة كان رئيس مجلس المدينة، الذى اختطف فى منتصف مايو 2013 من قبل رجال مقنعين. والشخص الثانى الذي اختفى كان شقيق روائى بارز. وبعد يومين، اختفى الرجل الذى قاد مجموعة رسمت علم الثورة السورية على حوائط المدينة.

يشرح أحد الأصدقاء: «لم يكن لدينا فكرة عن خاطفيه، لكن أحداً لم يجرؤ بعدها على فعل أى شىء». نظام الخوف بدأ فى السيطرة. بدء من يوليو/تموز، اختفى فى البداية عشرات الأشخاص ثم المئات. أحياناً وجدت جثثهم، لكن عادة يختفون دون أثر. فى أغسطس، أرسلت قيادة «الدولة الإسلامية» العديد من السيارات يقودها انتحاريون إلى المركز الرئيس لكتائب الجيش السورى الحر، ولواء «أحفاد الرسول»، وقتل العشرات من مقاتلي الجيش الحر وهرب آخرون. واختفى المعارضون المسلحون الأخرين. و نسجت قيادة «الدولة الإسلامية» شبكة من الصفقات السرية مع الكتائب حتى تعتقد كل كتيبة أن الكتائب الاخرى هى وحدها المستهدفة من «تنظيم الدولة».

  فى 17 أكتوبر/تشرين الأول 2013، دعت «الدولة الإسلامية» القادة المدنيين، رجال الدين والمحاميين فى المدينة لاجتماع. فى هذا الوقت، اعتقد البعض أنها قد تكون بادرة مصالحة. حضر الاجتماع 300 شخص واعترض اثنان فقط منهم على عمليات الاستيلاء القائمة، والاختطافات وجرائم القتل المرتكبة من قبل «الدولة الإسلامية».

 أحد الإثنين كان «مهند حبايبنا»، ناشط الحقوق المدنية والصحفى المعروف جيداً فى المدينة. وجد بعد خمسة أيام مكبلا بعد إعدامه بطلق نارى فى الرأس. تلقى أصدقاؤه رسالة إليكترونية من مجهول بصوره لجثته. وتضمنت الرسالة جملة واحدة: «هل أنت حزين على صديقك الآن؟» وخلال ساعات هرب حوالى 20 من الأعضاء القياديين في المعارضة إلى تركيا. ووصلت الثورة فى الرقة إلى نهايتها.

 بعد وقت قصير، أقسم 14 زعيما لأكبر العشائر على الولاء والطاعة للأمير «أبو بكر البغدادى». حتى أن هناك مقطع فيديو للمراسم. كان هناك شيوخ مع نفس العشائر التى أقسمت بالولاء الثابت للرئيس السورى «بشار الأسد» قبل عامين فقط.

 موت «حجى بكر»

 حتى نهاية عام 2013، كان كل شىء يجرى وفقاً لخطة «حجى بكر». كانت الخلافة تتوسع قرية بعد الأخرى دون أن يتم مواجهتها بمقاومة موحدة من قوات المعارضة المسلحة . بالطبع، بدوا عاجزين فى مواجهة القوة الشريرة للدولة الإسلامية. 

 حدث أمر غير متوقع في ديسمبر/كانون الأول 2013 عندما عذب اتباع «الدولة الإسلامية» بطريقة وحشية أحد قادة المعارضة المسلحة المحبوسين حتى الموت. تجمعت حينها الكتائب السورية سواء العلمانية واجزاء من جبهة النصرة المتشددة، واجتمعوا معا لدخول معركة ضد «الدولة الإسلامية». وهاجموا «الدولة الإسلامية» خلال أسابيع فى أكثر من مكان فى نفس الوقت، وبذلك تمكنوا من تحييد الميزة التكتيكية للإسلاميين، التى تمكنهم من تحريك وحدات بسرعة إلى المناطق الأكثر احتياجا للدعم. تم دفع «الدولة الإسلامية» خارج مناطق كبيرة من شمال سوريا. وحتى الرقة، عاصمة «الدولة الإسلامية»، وكانت على وشك السقوط فى الوقت الذى جاء فيه 1300 مقاتل من العراق. لكنهم لم يسيروا ببساطة للمعركة. بدلاً من ذلك، استخدموا طريقة مخادعة، كما يذكر الطبيب الهارب: «فى الرقة، كان هناك العديد من الكتائب المشاركة في الهجوم ولم تعلم كل كتيبة من ينتمي للكتيبة الاخرى. وفجأة، بدأت مجموعة بملابس المعارضة المسلحة بإطلاق النار على مجموعة أخرى من المعارضة.. فهربوا ببساطة».

 تنكر صغير وبسيط ساعد مقاتلى «الدولة الإسلامية» على الانتصار: فقط تغيير الملابس السوداء إلى السترات والجينز. فعلوا نفس الشىء على حدود مدينة جرابلس. فى عدة مناسبات، ألقت المعارضة القبض على سائقين يركبون سيارات مفخخة تابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية». وكان السائقون يسألون بدهشة: «هل أنتم من السنة أيضاً؟ أخبرنا أميرنا أنكم كفار من جيش الأسد».

 عندما تكتمل الصورة سيبدو الأمر سخيفا: هؤلاء الذين أعلنوا أنفسهم منفذين لإرادة الله في الأرض يتجهون إلى السيطرة على إمبراطورية مستقبلية كبيرة، لكن بماذا؟ بملابس النينجا، وخدع رخيصة وخلايا تجسس خادعة كمكاتب الدعوة. لكن هذه الحيلة نجحت. تمسكت «الدولة الإسلامية» بالرقة وتمكنت من السيطرة على بعض من أراضيها المفقودة هناك. لكن الوضع بات متأخرا جدا بالنسبة للمخطط العظيم «حجي بكر». مكث «حجي بكر» في مدينة «تل رفعت» الصغيرة التى كانت خاضعة لسيطرة «تنظيم الدولة» لفترة طويلة. المدينة الصغيرة انقسمت خلال ساعات قليلة عندما هاجمتها المعارضة المسلحة في نهاية يناير/كانون الثاني 2014. ظل نصف المدينة تحت سيطرة «تنظيم الدولة» بينما وقع النصف الثاني في يد لواء محلي. علق «حجي بكر» في النصف الخاطىء من المدينة، وكي يبقي متخفيا تجنب أي محاولة للانتقال إلى الأحياء التى تسيطر عليها عناصر «تنظيم الدولة». ورغم ذلك سقط عراب التجسس والوشاية بعد أن وشى به أحد جيرانه عندما أخبر قائد محلي يدعى «عبد الملك حدبة ورجاله» أن «شيخا من داعش يسكن بجواري». توجه القائد المحلي ورجاله إلى منزل «بكر»، وهناك فتحت امرأة منزعجة الباب لتقول لهم: «زوجي ليس هنا»، لكن المقاتلين أخبروا المرأة أن سيارته أمام المنزل.

 ظهر «حجي بكر» في هذه اللحظة مرتديا بيجامته، فأمره حدبة أن يأتي معهم لكن بكر اعترض، وقال إنه يريد أن يرتدي ملابسه، فرد حدبة: «لا.. تعالى معنا! فورا».

 ويذكر اثنان من شهود العيان على الواقعة أن «بكر» قفز فجأة وبرشاقة ملفتة مقارنة بسنه، وأغلق الباب ثم اختبأ تحت الدرج وصرخ: «لدى حزام ناسف! سأفجر المكان بكل من فيه». خرج «حجي» بعدها حاملا بندقيته الكلاشينكوف وبدأ في إطلاق الرصاص، عندها بادله «حدبة» إطلاق النار وأرداه قتيلا.

 عندما علم الرجال لاحقا من هو الشخص الذى قتلوه، بدأوا في تفتيش المنزل وجمعوا أجهزة الكمبيوتر، وجوازات السفر، وبطاقات خطوط الهواتف الجوالة، ومعدات «جي بي إس»، والأوراق التى تعد الأكثر أهمية. لم يجد الرجال أي مصاحف في أي مكان.

 قتل «حجي بكر» وأخذت المقاتلون المحليون زوجته إلى السجن. لاحقا، استبدل المقاتلون زوجة حجي برهائن اتراك لدى تنظيم الدولة بناء على طلب من انقرة. وقد أخفيت أوراق «بكر» القيمة لعدة شهور في غرفة خاصة.

 مخزن ثان للمستندات

 استمرت دولة «حجي بكر» حتى بدون وجود مؤسسها. وأكد الكشف عن ملف اخر كيف تم تنفيذ خططه بدقة متناهية، وخطوة تلو الأخرى. حاول «تنظيم الدولة» حرق أرشيفه عندما أجبر على الانسحاب من مقراته في حلب خلال يناير /كانون الثاني2014 لكنه واجه مشكلة تشبه تلك التى قابلتها الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية منذ 25 عاما. لقد كان لديهم الكثير والكثير من الملفات.

 بقى بعض من تلك الأوراق سليما ووصل إلى يد «لواء التوحيد»، أكبر مجموعة مسلحة في حلب حينها. وافقت المجموعة على منح «دير شبيجل» حق نشر تلك الأوراق بشكل حصري بعد مفاوضات طويلة، لكنها استثنت من ذلك الاتفاق قائمة بأسماء جواسيس تنظيم الدولة داخل «لواء التوحيد».

كشف تدقيق مئات الصفحات من تلك المستندات عن نظام معقد للغاية تضمن أعمال مراقبة واختراق لكل المجموعات المسلحة بما فيها عناصر «تنظيم الدولة». مسؤولو أرشيف الجهاد حافظوا على قوائم طويلة توضح من المخبرين الذين زرعهم «تنظيم الدولة» في لواءات وكتائب المعارضة المسلحة والمليشيات الحكومية. القوائم ذكرت أيضا من هم جواسيس مخابرات «بشار الأسد» بين المعارضة.

ويقول المسؤول عن حفظ  تلك المستندات: «إنهم يعرفون أكثر مما نعرف.. أكثر بكثير». بيانات المقاتلين كانت بين المستندات، وشملت خطابات تفصيلية تضمنت استمارات تقديم (مثل استمارات التقدم للوظائف) أرسلها مقاتلون أجانب مثل الأردني «نضال أبو عيش». وقد أرسل أبو عيش قائمة بالأسماء المرجعية التى تثبت نشاطه الإرهابي بالإضافة إلى أرقام هواتفهم، ورقم قضية جنائية كان متهما فيها. كما ذكر هواياته مثل الصيد، والملاكمة، وتفجير المنازل.

 يريد «تنظيم الدولة» أن يعرف كل شىء، لكنه في ذات الوقت يريد أن يخدع الجميع فيما يتعلق بأهدافه الحقيقية. على سبيل المثال، يعرض تقرير على صفحتين قائمة بالمزاعم التى قد يستخدمها «تنظيم الدولة» لتبرير السيطرة على أكبر مطحن للدقيق في شمال سوريا. وتشمل مبررات مثل اتهام العاملين بالمطحن بالاختلاس وأن سلوكهم لا يتفق مع شرع الله.الواقع أن تلك المنشآت المهمة استراتيجيا مثل المخابز، ومستودعات الغلال، والمولدات الكهربائية، يتم الاستيلاء عليها وعلى ما فيها من معدات وترسل إلى الرقة العاصمة غير الرسمية للخلافة حيث تبقى مخبأة.

 تكشف المستندات الكثير والكثير من خطط «حجي بكر» لتأسيس «تنظيم الدولة»، على سبيل المثال الدفع باتجاه تزويج المقاتلين من العائلات الكبيرة المؤثرة. وتضم الملفات الواردة من حلب قائمة بـ34 مقاتلا يريدون زوجات بالإضافة إلى احتياجات منزلية أخرى. تذكر المستندات أن «أبي لقمان» و«أبي يحيي التونسي» طلبا شقة، أما «أبو صهيب» و«أبو أحمد أسامة» فقد طلبا أثاثا لغرف نوم. بينما طلب «أبو البراء الدمشقي» مساعدة مالية بالإضافة إلى أثاث منزلي كامل، فيما أراد «أبو عزمي» غسالة ملابس أتوماتيكية.

 تبديل الحلفاء

في الأشهر الأولى من عام 2014، لعبت علاقات «حجي بكر» القديمة دورا حاسما، وتحديدا اتصالاته عبر عقود مع مخابرات «الأسد».

 في 2003، شعر النظام في دمشق بالفزع من احتمالية أن يوجه الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» قواته إلى سوريا للإطاحة بنظام «الأسد» بعد انتصاره على «صدام حسين». وخلال السنوات اللاحقة، نظم مسؤلو المخابرات السورية عمليات نقل آلاف المتشددين من ليبيا، والسعودية، وتونس إلى القاعدة في العراق. 90% من منفذي العمليات الانتحارية دخلوا العراق عبر سوريا. وتطورت علاقة غريبة بين الجنرالات السوريين والجهاديين الدوليين والضباط العراقيين السابقين المواليين لـ«صدام حسين» الذين التقوا بشكل متكرر في غرب دمشق. وقد بدا وكأنه تحالف وتعاون مشترك بين الأعداء الاكثر فتكا.

في ذلك الوقت، كان الهدف الرئيس هو تحويل حياة الأمريكيين في العراق إلى حجيم. وبعد عشر سنوات، كان لدى «بشار الأسد» دافعا آخر لبث حياة جديدة في ذلك التحالف. لقد أراد «الأسد» أن يقدم نفسه للعالم باعتباره أفضل الأشرار، وبالتالي كان من المهم جدا أن يترك «الأسد» ما يصفه بـ«الإرهاب الإسلامي» قويا بل كلما كان مروعا كان أفضل. وقد حكمت المصالح البرجماتية علاقة النظام السوري بـ«الدولة الإسلامية» كما كان الوضع مع التنظيمات السالفة خلال العقد الماضي.

 كلا الطرفان يحاول استخدام الاخر بطريقة تجعله الأقوى القادر في المستقبل على هزيمة من تعاون معه بالأمس. لكن على النقيض فإن «تنظيم الدولة» ليس لديه مشكلة في استقبال مساعدة من القوات الجوية التابعة للأسد رغم كل مزاعمه عن إبادة الشيعة الكفار. بدءً من يناير 2014، قصفت المقاتلات السورية بانتظام مواقع ومقرات المعارضة المسلحة خلال المعارك التى نشبت بين تنظيم الدولة والمعارضة.

 خلال معارك بين «نتظيم الدولة» والمعارضة في يناير 2014، قصفت مقاتلات «الأسد» بانتظام مواقع المعارضة المسلحة فقط بينما أمر أمير «تنظيم الدولة» مقاتليه بتجنب إطلاق الرصاص على الجيش السوري. هذا التنسيق ترك العديد من المقاتلين الاجانب مصدومين عندما رأوا صورة مختلفة تماما عن الجهاد الذى تخيلوه.

 وجه تنظيم الدولة كل ترسانة أسلحته في وجه المعارضة، وأرسل خلال أسابيع قليلة المزيد من منفذي الهجمات الانتحارية لاستهداف قيادات المعارضة بمعدل يفوق الهجمات التى وجهها إلى الجيش السوري خلال العام السابق. وبفضل الضربات الجوية الإضافية، استطاع «تنظيم الدولة» استعادة الأقاليم التى خسرها.

 ماحدث مع الفرقة 17 التابعة للجيش السوري يشرح باختصار ما يحدث من تبديل للتحالفات على الساحة السورية. كانت الفرقة الـ17 معزولة في قاعدة قرب الرقة تحت حصار من المعارضة المسلحة لأكثر من عام. لكن عناصر «تنظيم الدولة» استطاعت هزيمة المعارضة هناك، وأصبحت «قوات الأسد» الجوية قادرة على إعادة استخدام القاعدة لتزويد طائراتها مجددا دون أي خوف من الهجمات.

 بعد مرور 6 أشهر، سيطر «تنظيم الدولة» على مدينة الموصل ومخازن ضخمة للأسلحة، وحينها شعر الجهاديونأ لديهم القوة الكافية لمهاجمة حليفهم السابق. هاجمت عناصر «تنظيم الدولة» الفرقة الـ17 ، وسيطرت عليها ثم ذبحت جنودها الذين كانت تحميهم منذ وقت قريب.

بماذا سيأتي المستقبل؟

 عانى مؤخرا «تنظيم الدولة» من عدة انتكاسات، بدأت بهزيمته في معركة كوباني، ثم خسارة مدينة تكريت العراقية ما ترك انطباعا أن نهاية «تنظيم الدولة» باتت قريبة. ويبدو الأمر كأن جنون العظمة الذى يعاني منع تنظيم الدولة قد بلغ مداه، وبالتالي سيبدأ التنظيم في الانسحاب والاختفاء قريبا. لكن هذا التفاؤل المفرط يبدو مبكرا للغاية لأن التنظيم الذى خسر الكثير من مقاتليه مازال مستمرا في الانتشار والتمدد في سوريا.

صحيح أن تجارب الجهاديين في حكم مناطق جغرافية محددة قد فشلت في الماضي. ويبدو أن ذلك حدث بسبب نقص خبرتهم في مجال إدارة الأقاليم والدول. لكن يبدو أيضا أن مخططي «تنظيم الدولة» كانوا لفترة كبيرة على وعي بنقطة الضعف تلك، وقد عملوا على التغلب عليها. لذا نجد أن المسؤولين في «الخلافة» قد أسسوا نظاما أكثر استقرارا ومرونة مما يبدو عليه.

 قد يكون «أبو بكر البغداد»ي الاسم المعلن رسميا كقائد لتنظيم الدولة، لكن غير واضح حجم السلطة التى يحوزها. على أي حال، عندما أراد مبعوث «أيمن الظواهري» قائد تنظيم القاعدة التواصل مع «تنظيم الدولة»، كان ذلك الاتصال مع «حجي بكر» وضباط مخابرات اخرين وليس «أبو بكر البغدادي». بعدها وصف المبعوث  تنظيم الدولة بـ«ثعابين مزيفة تخون الجهاد الحقيقي».

 توجد سلطات وبيروقراطية وبنية دولة داخل هذا التنظيم، لكن يوجد أيضا قيادة موازية وهي عبارة عن وحدات خاصة بجانب الجنود التقليديين، وقادة إضافيين بجانب القائد الرمزي للقوات الذى يدعى «عمر الشيشاني». هؤلاء القادة لديهم سلطات تمكنهم من نقل أو معاقبة أمراء الاقاليم والمدن أو دفعهم على الاختفاء طوعا. علاوة على ذلك فإن القرارات لا تتخذ في مجالس الشورى، التى تعتبر صوريا أعلى هيئات صنع القرار. وبدلا من ذلك يتخذ القرارات «أهل الحل والعقد» وهم دائرة غامضة مأخوذ اسمها من العصور الوسطى للإسلام.

 «الدولة الإسلامية» قادرة على التعرف على كافة بوادر الثورات الداخلية وإخمادها. وفي نفس الوقت، هيكل الرقابة المحكم مفيد من أجل استغلال أموال «عناصر التنظيم».

 يمكن أن تكون الغارات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية قد دمرت آبار ومصافي النفط. لكن لا يستطيع أحد منع سلطات الخلافة من جمع الأموال من ملايين الناس الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وذلك في شكل ضرائب ورسوم جديدة أو ببساطة عبر مصادرة الملكيات. وبشكل عام فإن تنظيم «الدولة الإسلامية» يعلم كل شىء من خلال جواسيسه ومن خلال البيانات التي جمعوها عقب نهب البنوك ومكاتب التسجيل العقاري ومكاتب الصرافة. يعرف التنظيم من يمتلك المنازل والأراضي، ويعلم أيضاً من يمتلك الكثير من الأغنام ومن لديه المال الوفير. يمكن أن يكون رعايا الخلافة غير سعداء لكن هناك حد أدنى لما يمكن فعله وهو تنظيم وتسليح أنفسهم ومن ثم التمرد.

 في حين ينصب اهتمام الغرب على الهجمات الإرهابية المحتملة، تمت الاستهانة بسيناريو آخر مختلف وهو الحرب التي تقترب بين المسلمين السنة والشيعة. هذا الصراع يسمح لتنظيم «الدولة الإسلامية» بأن ينتقل من كونه مكروهاً إلى قوة مركزية.

 ينحصر الصراع على جبهات القتال حاليا في سوريا والعراق واليمن حول أمور طائفية، حيث يقاتل الأفغان السنة ضد الأفغان الشيعة في سوريا، ويستفيد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق من همجية و وحشية المليشيات الشيعية. هل يستمر هذا الصراع الإسلامي القديم في الإنتشار، يمكن لهذا الصراع أن يمتد إلى دول أخرى تختلف فيها المذاهب مثل السعودية، و العراق، و البحرين و لبنان.

 في مثل تلك الحالة تبدو الدعاية الإعلامية لـ«تنظيم الدولة» عن اقتراب القيامة أمراً واقعياً. كما يمكن في تلك الظروف إقامة ديكتاتورية مطلقة باسم الله.

 

  كلمات مفتاحية

الدولة الإسلامية سوريا العراق القاعدة حجي بكر المخابرات السورية

«دير شبيجل» تكشف بالوثائق: العقل المدبر لـ«داعش» ضابط استخبارات عراقي

«ذا ديلي بيست»: قصة ظهور «الدولة الإسلامية» من قلب أحد السجون الأمريكية في العراق

"الدولة الاسلامية" وأخواتها .. وأسباب مفاجأتها الكبرى في الموصل

«داعش».. إسلاميته وبعثيته وتخابره

تنظيم «الدولة» يشن حملة اعتقالات ضد شيوخ الصوفية في مدينة الرقة بسوريا

«واشنطن بوست»: لماذا يصعب قمع ”التمرد الجهادي“؟

كتاب لنائب مدير «سي آي إيه» السابق: «الدولة الإسلامية» استفاد من «إدوارد سنودن»

«نيويورك تايمز»: مصادرة وثائق خاصة بـ«الدولة الإسلامية» خلال حملة مداهمات في سوريا

رويترز: جيش «صدام حسين» سر نجاح خلافة «البغدادي»

الخليج الجديد في السيناريو الغربي

«ذي ديلي بيست»: نحن لا ندمر «الدولة الإسلامية» .. بل نجعلها أقوى

البيت الأبيض يعلن مقتل الرجل الثاني في «الدولة الإسلامية» في غارة على الموصل

«الدولة الإسلامية» ليست لغزا: كيف نفهم تحركات التنظيم الاستراتيجية؟

«ناشيونال إنترست»: ثلاث أساطير ضخمة (وخطيرة) بشأن «الدولة الإسلامية»

النسخة الإسلامية من نهاية العالم: لماذا ينضم المقاتلون إلى «الدولة الإسلامية»؟

«ذي إنترسبت»: صعود «الدولة الإسلامية» ومنطق الصدمة

«فورين بوليسي»: كيف سيتمكن «لورانس العرب» من هزيمة «الدولة الإسلامية»؟

«ناشيونال إنترست»: البحث عن استراتيجية جديدة لهزيمة «الدولة الإسلامية»

«فورين أفيرز»: حقيقة الدور الذي لعبه «بشار الأسد» في تأسيس تنظيم «الدولة الإسلامية»

سلسلة النسب الجهادي

«تدنهوفر» يوثّق رحلته إلى «قلب الإرهاب»