فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أول من أمس، الجميع بقرار سحب أغلبية القوات الروسية من سوريا، مع الإبقاء على القاعدتين العسكريتين هناك. وبدا القرار مثلما أن يكون فريق متقدما بنتيجة 7-0، ثم يقرر المدرب فجأة الانسحاب من المباراة!
بالطبع، ما تزال التكهنات والتسريبات طازجة، وهنالك تساؤلات في العمق لمحاولة التعرف على الأسباب التي تقف وراء هذا التطور المفاجئ، في خضم استئناف محادثات جنيف، والتشدد الملحوظ الذي بدا عليه موقف وزير الخارجية السوري وليد المعلم، عشية انعقاد المحادثات، عندما أعلن رفض طرح موضوع الانتخابات الرئاسية، معتبرا أنه لا يحق لأحد الحديث عنها، مكتفيا بالموافقة على إجراء انتخابات نيابية.
فيما قلل رئيس الوفد السوري بشار الجعفري، من حجم أي "تنازلات" أو تفاهمات ممكنة مع المعارضة السورية، رافضا في الأصل طرح مصطلح "المرحلة الانتقالية".
يأتي موقف بوتين، إذن، وكأنه فرمل تماما الموقف السوري في جنيف، وأحرج ممثلي النظام هناك، وقوى من الحالة المعنوية للوفد المعارض، بخلاف الدور الروسي العسكري الذي جاء ليقلب الموازين العسكرية، ويرجح كفة النظام الذي كان على وشك الانهيار عشية التدخل العسكري الروسي، بالرغم من دعم حلفائه الإيرانيين وحزب الله.
هل حقق الروس أهدافهم بصورة كاملة، بما يبرر ما حدث، كما جاء في الديباجة الإعلامية للبيان الروسي؟
بالتأكيد لا؛ فهناك جزء كبير من المهمة العسكرية في سوريا لم ينجز بعد. بل إن الروس تخلوا عن الدور العسكري نسبيا، بدرجة كبيرة، في ذروة التحضيرات لاستعادة تدمر، وغداة تصريح مثير للجدل لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حول تقاسم أدوار بين الروس والأمريكيين في سورية لمواجهة "داعش".
إذن، ثمة حدث طارئ مفاجئ قلب الموقف الروسي، أو بعبارة أدق دفع ببوتين إلى توجيه رسائل قاسية إلى الرئيس السوري بشار الأسد.
فما هو هذا التطور أو السر؟
إلى الآن، التسريبات الوحيدة المتاحة، وهي التي تقترب بنا كثيرا من تفكيك "اللغز الروسي"، جاءت عبر مقالين في صحيفة "السفير" البيروتية القريبة من النظام السوري، لكاتبين على درجة مهمة من الإطلاع. الأول، هو الإعلامي المعروف سامي كليب. والثاني، محمد بلوط، الذي يحصل على مصادر معلومات أمنية سورية جيدة في العادة.
التحليلان يتوافقان على أن هناك خلافا روسيا-سوريا حول ملفات حيوية وأساسية.
وربما أضيف إلى ذلك تباينا روسيا إيرانيا أيضا، في مقدمة ذلك عدم ارتياح النظام السوري لتوقيت وقف إطلاق النار، الذي جاء في مرحلة المبادرة والتقدم لدى الجيش السوري والإيرانيين وحلفائهم، ما أوقف الخطط الطموحة بتحقيق انتصارات عسكرية على الأرض، في كل من حلب والجنوب وريف حمص.
الأمر الثاني، وهو على درجة أكبر من الأهمية، شعور الروس بموقف سوري معاند ومتشدد للغاية في محادثات السلام في جنيف، والشعور بنشوة الانتصارات الأخيرة، ما جعل النظام السوري يرفض ما يعتقد أنها أفكار روسية.
في ظني، وهنا يأتي دور العامل الإيراني، أن الرئيس بوتين شعر بأن تصريحات وزير الخارجية وليد المعلم، والتشدد السوري في المفاوضات، وقبل هذا الرفض الصريح المعلن لفكرة الفيدرالية التي طرحها الروس بصورة غير مباشرة؛ كل ذلك يعكس الموقف الإيراني المهيمن على القرار السوري، أي أن الخلاف العميق ليس سوريا-روسيا، بل إيرانيا-روسيا.
لا تخفي مصادر دبلوماسية عربية أن هناك تذمرا إيرانيا من تجاهل طهران في التفاهمات الروسية-الأمريكية الأخيرة من جهة، ووجود تسريبات ومعلومات -لدى المصادر نفسها- بأن هناك خلافات عميقة روسية-إيرانية على المرحلة المقبلة، وتقاسم النفوذ وكلفة التدخل العسكري الروسي.
على كل، النتيجة الوحيدة لهذا التطور هي أنه أعاد خلط أوراق اللعبة السورية، وفتح الاحتمالات على مصراعيها.