في 14 مارس/أذار الجاري أعلن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» أنه سيسحب الجزء الرئيسي من القوات العسكرية الروسية التي قام بنشرها في سوريا قبل 6 أشهر. وسوف تحافظ روسيا على قدرتها على العمل من خلال قاعدة حميميم الجوية في سوريا جنوب شرق اللاذقية ومن القاعدة البحرية العريقة في طرطوس، وكلاهما تعهد «بوتين» بحمايتها من البر والبحر والجو. وبالتالي، فإن الوقت لا يزال مبكرا جدا لإدراك أثر الانسحاب الروسي من سوريا، وبالتأكيد فإنها سوف تحتف بقدرتها على إعادة الانتشار في حال أرادت ذلك.
الآن، ومع ذلك، فإن الأهداف التي تم تحديدها من قبل وزارة الدفاع للعملية العسكرية قد تم إنجازها، وأن الأوان قد آن من أجل أن تعمل الدبلوماسية. فكيف يفكر «بوتين» إذا؟
لا يمكن أن يكون هذا القرار هو مجرد خطوة تهدف إلى توفير المال، على الأقل في المدى القصير. لم تكن تكلفة العمليات في سوريا باهظة على النحو المتخيل وهي في كل الأحوال تتراوح ما بين مليار إلى ملياري دولار سنويا. كان بإمكان «بوتين» أن يستمر في حملته الجوية لعدة أشهر أخرى دون أن يواجه صعوبات تذكر، رغم أن كل مبلغ متوفر يبقى مهما نظرا للحالة المتردية للاقتصاد الروسي. انخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 3.7% خلال عام 2015، كما فقد الروبل نصف قيمته في مقابل الدولار خلال عام 2014، وهناك دلائل على فترات متقطعة من السخط في شكل إضرابات واحتجاجات.
وكجزء من خطة شد الأحزمة الحكومية، كان «بوتين» قد أعلن بالفعل عن تخفيضات في ميزانية الدفاع، والذي قال عنه «سيرغي شيميزوف» رئيس تكتل الأسلحة الروسية روستك، والمقرب من «بوتين»، أن نسبته قد تصل إل 10% خلال العام المقبل. وسوف تكون الحرب المفتوحة في سوريا مكلفة. ونظرا للصعوبات الخطيرة التي تواجه الاقتصاد الروسي، بفعل انخفاض أسعار النفط ثم بفعل العقوبات الغربية، فإن «بوتين» لديه جميع الأسباب التي تدفعه من أجل تجنب عبء حرب طويلة الأمد.
الأهم من ذلك هو أن «بوتين» بإمكانه أن يعلن انتصاره من دون التعرض لخطر التورط في مستنقع الشرق الأوسط. حققت الحملة الجوية الروسية الكثير من الأهداف بما في ذلك منع انهيار حكومة الرئيس السوري «بشار الأسد»، وتمكينه من استعادة قدر جيد من الأراضي التي فقدتها قواته لصالح جيش الفتح وبخاصة في محافظات إدلب وحلب. وقد كان لروسيا حصة استراتيجية في سوريا يعود تاريخها إلى منتصف الخمسينيات، وقد ضمن «بوتين» حماية هذا النفوذ من خلال تدخله العسكري.
كما أجبرت تحركات «بوتين» المعارضة السورية على قبول وقف إطلاق النار الذي دخل إلى حيز التنفيذ في 27 فبراير/شباط واكتسب مكانا على طاولة المفاوضات في روسيا، وفرض على الولايات المتحدة عدم تجاهل مصالح بلاده. وقد أجبر الولايات المتحدة أيضا على التخلي عن موقفها الأصلي بعدم إجراء أي محادثات سلام في وجود «الأسد». الاحترام والمكانة، وخاصة في نظر الولايات المتحدة، هو أكثر ما ترغب فيه روسيا.
وبدلا من أن ننظر إلى الانسحاب الروسي على أنه نصر لـ«بوتين»، ربما يكون من الأفضل أن يتم النظر إليه كحالة فوز متبادل خصوصا إذا استمر وقف إطلاق النار وتم النجاح في التوصل إلى إرساء لأسس تسوية سياسية. توقف الضربات الجوية الروسية هي أيضا أنباء جيدة للشعب السوري الذي عانى بشكل مفزع من القصف الروسي الذي بلغ حد استهداف المستشفيات في المناطق التي يسيطر عليها المعارضة.
ويمكن للانسحاب الروسي أيضا أن يعزز من فرص صمود وقف إطلاق النار. من ناحية، فإنه سوف يقلل طموح «الأسد» في جني المزيد من المكاسب العسكرية مع افتقاره للدعم الجوي الروسي. ومن ناحية أخرى، فإن قرار «بوتين»، حال التمسك به، فإنه سوف يمنع فرص حدوث اشتباك عسكري جديد بين روسيا وتركيا وهو السيناريو الذي يمكن أن يتصاعد بسرعة.
من الناحية السياسية، يخبرنا قرار «بوتين» أنه على الرغم من الحديث المتزايد حول وجود حرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة، فإن البلدين قد تعاونا بشكل وثيق من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار في سوريا. كان «بوتين» دوما يرغب في أن يتم التعامل مع روسيا كقوة عظمى وخصوصا من جانب الولايات المتحدة. وقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى وصول العلاقات الروسية الأمريكية إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة. ولكن في سوريا، فإن وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» ونظيره الروسي «سيرغي لافروف» قد عملا معا جنبا إلى جنب حتى الآن بشكل جيد.
وعلاوة على ذلك، فإنه يدل على أن العلاقات هي أمر مهم. ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك باجتماعات «كيري» و«لافروف» و«الحميمية» التي تظهرها صورهما معا والتي تأتي متناقضة بشكل صارخ مع اللقاءات الفاترة بين «بوتين» و«أوباما». في النظام الروسي، حيث تعتمد السياسة على شبكات غير رسمية بين الحلفاء المقربين من «بوتين» أكثر مما تعتمد على أنشطة المؤسسات كما في الولايات المتحدة، فإن تحقيق نتائج سياسية إيجابية يتوقف على الكيمياء الشخصية بشكل كبير. ما ننتظر أن نراه هو كيف ستكون هذه المخرجات قادرة على الصمود.
وأخيرا، فإن هناك بعض الجمهوريين في الولايات المتحدة يروجون أن «بوتين» قد فاز من جديد ونجح في تحقيق أهدافه في سوريا ونجح في محاصرة الولايات المتحدة. وهم يلقون اللوم في ذلك كالمعتاد على ضعف سياسة «أوباما» الخارجية. ولكن قرار «بوتين» في سوريا قد تكون محصلته النهائية في صالح «أوباما» بأكثر مما قد تكون ضده. ما يهم «أوباما» الآن هو إذا ما كان الانسحاب الروسي سوف يساهم في التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم في سوريا والذي يمكن أن يمهد الطريق في النهاية لإنهاء الحرب التي أودت بحياة أكثر من 300 ألف شخص وشردت 5 ملايين إلى لاجئين بخلاف المشردين في الداخل. في ضوء هذه الحقائق الرهيبة، فإنه إذا كان للدبلوماسية أن تعمل في نهاية المطاف في سوريا فإن ذلك سوف يكون مكسبا للجميع.