في تقريرها للعام 2014، حول مؤشرات محاربة الفساد والإفساد في العالم، تضع منظمة «الشفافية الدولية» دولة العراق في المرتبة 170، بعلامة 16 من 100؛ تسبقها تركمانستان، وتليها جنوب السودان. وللإنصاف، ولكي لا يبدو العراق وحيداً في هذه الساحة، تشير معطيات العالم العربي إلى مواقع أخرى متدنية (مصر، 94: 37؛ الجزائر، 100: 36؛ سوريا، 159: 20؛ اليمن، 161: 19؛ ليبيا، 166: 18…). طريف، في المقابل، أن تكون تركيا في مرتبة وسيطة (64: 45)؛ وإيران في مرتبة هابطة (136: 27)!.
في ضوء هذه المؤشرات، لا أحد يغامر بالقول إنّ قوانين «حيدر العبادي»، رئيس الوزراء العراقي، حول مكافحة الفساد في العراق، سوف تمرّ دون مقاومة شرسة من الأطراف المتضررة، في جهة الفاسدين والمفسدين على حدّ سواء.
لا أحد، أيضاً، يجزم أنها ستجد تطبيقاتها الملموسة على الأرض، في هذه التربة العراقية الراهنة تحديداً؛ حيث الفساد والإفساد يبدأ من المحاصصة السياسية، من هرم السلطة وحتى القواعد السفلية الأعرض، ولا ينتهي البتة عند الجيش والمؤسسة الأمنية والسلطات الثلاث. صحيح أنّ العراق، كما تشير بيانات «الشفافية الدولية»، لا يبتعد كثيراً عن معدلات فساد الجارة الإيرانية (التي يُقال إنها «مستقرة»، «ممانعة»، لا طائفية فيها ولا حروب أهلية…)؛ إلا أنّ الصحيح الآخر هو مستويات البؤس المريعة التي يخلّفها ذلك الفساد، ومقدار الأذى البالغ الذي يُلحقه يومياً بالحياة الاجتماعية والوطنية.
إلى هذا، ثمة تلك القاعدة ـ التي تنطبق على العراق، أسوة بالبلد الذي يحتل المرتبة الأولى في مكافحة للفساد (الدانمرك، 92 درجة) ـ والتي تنصّ على أنّ الفساد، كما الإفساد، ليس شارعاً وحيد الاتجاه، فالفاسد والمرتشي وقابض العمولات، هو حليف المفسد والراشي ودافع العمولات. وتقارير «الشفافية الدولية» تسجّل هذه الحقيقة، بل تتكئ عليها بصفة أساسية حين تتحدّث عن العواقب البنيوية الوخيمة التي تلحق بالاقتصادات النامية جرّاء شيوع الفساد في أجهزة الدولة المعنية مباشرة بالتنمية.
والتقرير الرائد في هذا الصدد، الذي وضعه باولو ماورو في سنة 1995، أشار إلى أنّ الدول الأكثر فساداً هي تلك التي تشهد القليل فالأقلّ من توجّه ناتجها القومي الإجمالي إلى الاستثمار، وبالتالي فإنها تحقق القليل فالأقلّ من معدّلات النموّ. وهذه الدول تستثمر في قطاع التربية والتعليم أقلّ بكثير من استثمارها في قطاعات إنشائية، لأنّ هذه الأخيرة توفّر فرص سمسرة لا توفّرها الاستثمارات الأولى.
للمرء أن يبدأ من تسجيل فضيلة كبرى لتظاهرات الاحتجاج الشعبية الواسعة التي اجتاحت شوارع العراق مؤخراً، وكانت شعاراتها على درجة مذهلة من الوعي حول ارتباط الفساد بالشعارات المذهبية الزائفة. هذا الحراك، الآخذ في التصاعد، والعابر للحساسيات والمذاهب والإثنيات، وضع العبادي أمام استحقاقات إصلاح لم يعد من الممكن تأجيلها، إذْ صار بديلها الأوّل هو اهتزاز الأرض تحت «حزب الدعوة» ذاته.
وهذا، من جانب آخر، هو الشارع الذي صاغ أسئلة جديدة من باطن الأسئلة العتيقة حول أنساق النهب، وهل مردّها «أشباح الحرب الأهلية» وكوابيس «داعش»، كما يزعم الفاسدون والمفسدون؟ أم أنّ المسؤولية تقع على عاتق الحكومات العراقية المتعاقبة، ولكن نوري المالكي بصفة خاصة، لأنها ارتهنت لمعادلات حزبية وبرلمانية ومذهبية ضيقة ولاوطنية، داخلية وخارجية؟ أم هي، إلى هذه وتلك، ثقافة النهب والفساد والإفساد، التي دشّنها الاحتلال الأمريكي للعراق، قبل أن يتولى متابعتها أتباع الاحتلال من ساسة البلد أنفسهم؟
في كلّ حال، الأيام المقبلة كفيلة بإنصاف قوانين «العبادي»: أهي، حقاً، مسعى جادّ لاستئصال الفساد؛ أم أنها محض نفخ جديد، في قربة مثقوبة عتيقة!