مقابر جماعية، وعمليات تصفية ميدانية، وقتل، واختطاف لمئات المواطنين، وإحراق، وسرقة مئات المنازل والمحال التجارية، هي أبرز الاتهامات التي وجهتها منظمة (هيومن رايتس ووتش) لميليشيات الحشد الشعبي في تقريرها الصادر الأسبوع الماضي، والذي حمل عنوان: (دمار بعد المعركة: انتهاكات الميليشيات العراقية بعد استعادة تكريت).
وباتت مدينة تكريت السنيّة مطهرة مكانياً من السنّة بعد نهبها وحرق منازلها ومساجدها وقتل من بقي من أهلها، على أنغام ثارات الحسين وتحت رايات الميليشيات الطائفية، وكشف التقرير عن المزيد من الانتهاكات المروعة التي ترقى إلى كونها جرائم حرب، مورست من قبل ميليشيات الحشد الشعبي، الذي يعد القوة النظامية الموازية للمؤسسة العسكرية العراقية، وأكد النائب عن محافظة صلاح الدين شعلان الكريم، أن كل ما جاء في تقرير «دمار بعد المعركة»، هو موجود على أرض الواقع، بل هناك انتهاكات بالجملة حصلت في مناطق أخرى في العراق لم يتطرق لها التقرير.
وكما هي عادة هذه الميليشيات الإرهابية، فقد سارعت القيادات في الحشد الشعبي إلى نفي جميع الاتهامات الموجهة إليها والتنصل منها، بل إن حكومة العبادي تبذل دوماً قصارى جهدها في الدفاع عن تلك الميليشيات وتبرئتها من جرائمها ومن وصمها بالطائفية، وإلقاء اللائمة على ما تسميها «عصابات» ترتكب جرائم تنسبها إلى قوات الحشد الشعبي للإضرار بها، وانبرت في أكثر من مناسبة للدفاع عن هذه القوات، ووصف ما يقدم من أدلة، أو من تصريحات مصورة لقادتها بـ(الحملة المسعورة).
الاتهام الذي وجهته المنظمة للميليشيات العراقية، بارتكابها جرائم عنف وخرق لقوانين الحرب في تكريت، لم يكن اتهاماً اعتباطياً أو مختلقاً، إنما كان مستنداً على صور بالأقمار الصناعية، للتثبت من شهادات الشهود الذين أفادوا بالدمار اللاحق بالبيوت والمتاجر في تكريت وفي بلدات محيطة بها، وأوضح هذا التقرير بأن كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق المدعومتين من جانب الحکومة العراقية، اللتين تشکلان العمود الفقري للحشد الشعبي، اختطفتا أکثر من 200 من الأهالي السنّة من ضمنهم أطفال، وما لا يقل عن 160 لا تزال مصائرهم مجهولة.
هذه الميليشيات المدججة بالسلاح الإيراني، والتي تتحرك بعقيدة طائفية مهمتها القضاء على المكون السنّي في العراق، وإبعاده عن الساحة السياسية، بل ومن الخريطة العراقية، باتت اسماً مرتبطاً بالموت والخراب والحرق والسلب في أي مكان تحل فيه، فما جرى في تكريت جرى في غيرها، إذ أصبحت المناطق السنية التي تطأها ملكاً مستباحاً لتلك الميليشيات، وحيثما حلّت ميليشيات الحشد الشعبي في الأراضي العراقية، بدعوى قتال تنظيم داعش، كانت مصدراً للقلق والترقب حول الانتهاكات التي ستقوم بها، وتتعالى صرخات أهالي تلك المناطق ومن خلفهم منظمات حقوق الإنسان الدولية، حول الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها تلك الميليشيات من حرق وتخريب وسرقة ممتلكات المواطنين، وحملات التطهير ضد السنة بدعوى مساندة مقاتلي داعش على احتلال مدنهم والتعاون معه خلال حكمه لها.
ورصدت مواقع التواصل الاجتماعي فيديوات لجرائم بلغت درجة لا تطاق من الوحشية، والجرائم التي ترتكب من قبل ميليشيات الحشد الشعبي في المناطق السنية لا يمكن أن تعد جرائم فردية، بل هي جرائم ممنهجة تقوم على أسس طائفية، تقع في إطار سياسة التطهير المكاني، وطرد وتهجير السكان السنّة من أراضيهم، وعلى رغم ما ثبت من جرائم وتجاوزات مارستها ميليشيات «الحشد»، فهو لا يزال الأقوى والأكثر تحكماً بالمشهد الأمني والعسكري، نظراً لما تقدمه طهران والحكومة لها من دعم وإسناد مطلق على حساب باقي عناصر المؤسسة الأمنية والعسكرية العراقية ومكوناتها، ولا يمكن أن تتزعزع هذه القوة التي يملكها الحشد، إلا إذا قامت واشنطن بصورة فعلية بتغيير الاستراتيجية المتبعة في قتال داعش.
فالإدارة الأميركية - بقصد أو من دونه - أسهمت في دعم القوى المدافعة عن المشروع الإيراني في العراق، والساعية إلى فرضه أمراً واقعاً على الأرض، وحينما أدركت فشل القوات العراقية المشتركة، ممثّلة بالجيش وميليشيات «الحشد الشعبي»، في استعادة محافظة الأنبار من داعش، على رغم المعارك المستمرة منذ شهرين، والتي لم تسفر عن تحقيق أي تقدم يُذكر مقابل ما ترتّب عليها من خسائر كبيرة في صفوفها، بدأت بلملمة الأوراق ورسم استراتيجية جديدة في العراق والمنطقة، فأعلنت عن تحفظها على مشاركة «الحشد» في معركة الرمادي وأن تصبح معركة الأنبار إيرانية، على غرار ما حدث في المعارك التي جرت في محافظة صلاح الدين وإبعاده قدر المستطاع، وهو مطلب سنّي بامتياز، وبعد تلكؤ طويل في تسليح ودعم العشائر السنية، أدركت واشنطن أهمية ذلك، فبدأت بتسليح وإعداد أبناء العشائر لمعركة الرمادي بتنسيق غير مسبوق بين القوات العسكرية العراقية وأبناء العشائر، وهو ما كان محط استياء بالغ وبصورة علنية من ميليشيات الحشد الشعبي التي وقفت حائلاً من دون تسليحها على مدى الفترة الماضية.
* حسن بن سالم - كاتب سعودي