تبدو مشكلة السنة في العراق، وبخاصة في تلك المناطق التي تقع في إطار نفوذ تنظيم «الدولة الإسلامية» معقدة بشكل ما، خاصة في ظل الوضع الجديد تحت سيطرة «الدولة الإسلامية»، فالكثير منهم لا يزال يحتكم إلى علاقته السيئة بالحكومة المركزية - التي يراها الجميع طائفية بامتياز - ليقرر موقفه من المسلحين، وما يزيد الأمر تعقيداً هو تفكك النخبة السياسية السنية في ظل التأثيرات السلبية العميقة للحكم الذي فشل في جعل السنة جزءًا من عراق ما بعد صدام حسين.
«راشد بتال» هو صاحب معمل للمواد الإنشائية في الرمادي، اضطر لمغادرة بلدته وترك معمله والنزوح إلى أربيل، مؤخراً تعرض منزله للقصف على يد القوات الأمريكية بعد أن اتخذه المسلحون وكراً للاختباء. يرى «راشد» أن عودته إلى بلده قد تطول أكثر بكثير مما قد يتوقع أحد.
في تكريت، شمال بغداد، توقفت الحركة في السوق مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) لأن المسلحين قطعوا الطريق إلى ساحة وسط المدينة وهم يقتادون عشرة شبان. لقد جلدوهم أمام مرأى الجميع، وأعلنوا أن تهمتهم «التدخين علناً».
وفي الرمادي، غرب بغداد، ينتظر المسلحون في تنظيم «الدولة الإسلامية» الجنود في الجيش والشرطة لإعلان التوبة في المساجد. «زايد عبد الرحمن»، أحد عناصر قوات الصحوة السنية، تلقى مكالمة هاتفية من أحد قادة «الدولة الإسلامية» يطلب منه «الشهادة»، والبراءة من عمله الأمني، وأخيراً تسليم سلاحه وفقاً لما أوردته صحيفة «الحياة».
هناك نحو ٦٠ عاملاً في معمل المواد الإنشائية الذي يملكه «بتال». نصفهم تقريباً انخرط في نشاط «الدولة الإسلامية» وصاروا يحملون السلاح ويتلقون ضعف ما كانوا يحصلون عليه من رواتب في المعمل. النصف الآخر بين نازح وبين من اختار المكوث في المنزل بانتظار «الفرج».
السنة في العراق مطالبون دوماً بالجواب على السؤال الأصعب : هل تؤيدون داعش؟ ، وفي الحقيقة أن هذا السؤال يعد ترفاً بالنسبة لهم في ظل اجتياح «داعش» لمدنهم واستيلائها على المقار الحكومية في ظل تقهقر كبير للجيش العراقي، بعض المسلحين السنة اضطروا إلى الانضمام لتنظيم «داعش »بإرادتهم أو رغماً عنهم، البعض الآخر انتظم في مجموعات للقتال ضد التنظيم برعاية أمريكية في محاولة جديدة لاستنساخ تجربة الصحوات التي نفذها من قبل الجنرال الأمريكي «ديفيد باتريوس» في أعقاب الاجتياح الأمريكي للعراق وظهور تنظيم القاعدة إلى الصدارة، هناك جماعات أخرى تقف على الحياد وتنتظر تقهقر مسلحي «داعش» تحت وطأة القصف الأمريكي من أجل السيطرة على هذه المناطق حتى لا يدخلها الجيش العراقي، ربما تستعيد «داعش» هذه المناطق بسهولة فيما بعد عبر اتفاقات تعقدها مع هؤلاء المسلحين.
الآلاف من السنة الآن نازحون في أربيل في تجمعات سكنية مخصصة، ويخضعون لرقابة مشددة في ظل خوف الأكراد بشدة من وجود عناصر لتنظيم« داعش» -الذي يخوض حرباً ضد الأكراد في عدة مناطق- تتسرب إلى الإقليم مع النازحين السنة، الذين يشعرون أنهم مضطرون دوماً للتأكيد على أن «داعش» تنظيم إرهابي كي تتم معاملتهم بشكل طبيعي في الإقليم الكردي.
يقول «خالد كريم»، الذي غادر مدينة الفلوجة (غرب بغداد) قبل نحو ستة أشهر، إنه لم يعد بإمكانه البقاء أكثر في أربيل، «ليس لدي ما يكفي من المال لاستمر هنا (…) أطفالي خسروا العام الدراسي، وأفضل ما يمكن القيام به اليوم هو العودة إلى الفلوجة».
والحال، أن كثيرين من الذين نزحوا يفكرون بالعودة لكن عليهم القبول بالواقع الجديد في مدن الأنبار لأن فكرة العودة تتطلب «التعايش مع داعش»، وفي الحقيقة، فإن «التعايش» هناك يعني مبايعة التنظيم مع القبول بالقواعد والقوانين الصارمة والرقابة الشخصية التي يفرضها مسلحوه، ومع ذلك، ثمة أصوات تقول «ما يجري أفضل من جيش طائفي يتعمد إهانة السنة»، فقبل سقوط الموصل ومدن أخرى كان الجيش العراقي يتعمد إهانة السكان (…) ثمة جنود يشتمون عقائد الناس، ويعتقلون أشخاصاً من دون سبب أو جرم».
هناك شباب انخرطوا في التنظيم لأن ذويهم بين معتقلين في سجون الحكومة، أو قضوا في مناوشات مع الجيش. وثمة شبان يعتقدون أنهم سيحررون العاصمة من الإيرانيين.
هناك «ميليشيات شيعية» جديدة لا تزال تظهر يومياُ في العراق، آخرها «سرايا الخرساني» المسماة تيمناُ بـ«آية الله الخميني» الذي كان يلقبة المقربون منه بالخراساني، وتبدو سياسة الميليشيات هي السمة المميزة للسياسة الخارجية الإيرانية بدءاً من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات في العراق التي بدأت منذ عهد «صدام حسين» وخلال الحرب العراقية الإيرانية بـ«سرايا بدر » وتوسعت كثيراً في أعقاب الاجتياح الأمريكي بتشكيل المجلس الأعلى الإسلامي في العراق.
بدأت «منظمة بدر» التي يقودها الآن «هادي العامري» بالنشاط في أعقاب الاجتياح الأمريكي وهي تقوم الآن بدور رأس الحربة في المواجهات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، تم تخصيص موارد إيرانية لدعم كتاب وميليشيات شيعية أخرى كـ«جيش المهدي» التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي تدرب على يد «فيلق القدس» الذي يقوده قائد الاستخبارات الإيرانية «قاسم سليماني»، كان الأميركيون يلقبون جيش المهدي بـ«القوات الخاصة».
التحقت بعض هذه الطوائف المسلحة بالجيش العراقي وشكلوا الطبقات العليا في هذا الجيش الذي صارت الطائفية سمة مميزة غالبة عليه، ومع ظهور نجم «داعش» كثفت إيران من دعمها للميليشيات الشيعية التي بلغ عددها ما لا يقل عن 24 ميليشيا مقاتلة قاتلت إلى جانب الجيش العراقي "الطائفي" ضد المحافظات السنية وتعمدت إذلال السنة وإهانتهم فضلاً عن المذابح الدموية التي يصعب حصرها، واليوم فإن السنة العراقيين مطالبون بإعلان البراءة من «داعش» والارتماء في أحضان الحكومة الطائفية وميليشياتها دون أن تقدم هذه الحكومة أي شيء بإمكانه أن يعيد بعض الطمأنينة والثقة لهؤلاء، الأمر الذي يجعل السنة العراقيين مطالبون بالاختيار بين خيارين أحلاهما مر، وفي النهاية يبقى الخيار محسوماً عند أغلبهم بأن نار «داعش» خير من حجيم الحكومة الطائفية والميليشيات الإيرانية.