من المؤكد أن نسبة كبيرة جداً من العرب، وخصوصاً من سكان المشرق، مهتمّون كثيراً بالنتائج التي ستتمخض عنها الانتخابات البرلمانية التركية التي انتهت أمس، فهذه النتائج ستحدد، إلى سنوات طويلة مقبلة، ليس فقط مصير تركيا، بل كذلك مصير المنطقة وهو ما يعيد بالضرورة التذكير بنهاية الحرب العالمية الأولى وانتهاء حرب الوجود التركية ضد هجوم القوى الغربية عليها لتفكيكها بولادة الجمهورية في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923، والذي سبقه دخول الولايات العربية في المشرق تحت نظام الانتداب في 26 نيسان/إبريل فوضعت سوريا ولبنان تحت السيطرة الفرنسية، ووقعت فلسطين والأردن والعراق تحت الهيمنة البريطانية.
وفيما بدأت تركيا إعادة تكوين لجمهوريتها الوليدة كانت البلدان العربية يعاد فكّها وتركيبها، لتبدأ تاريخها الحديث وهي تنوء تحت سلطات الانتداب لتنتهي بكارثة الاحتلال الاستيطاني لفلسطين التي ستكون عتلة نكبات لاحقة تقضي عملياً على إمكانيات التطوّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الطبيِعي للبلدان العربية التي استبدلت أكثرها الاحتلال الغربي باستبدادات عربية تكبح إمكانيات التقدم والحداثة والمدنية.
بعد الهبوط التدريجي لمصر (وباقي الدول العربية طبعاً) التي قدمت خلال الفترة الناصرية أكبر تحدّ يحاول الإجابة على سؤال التقدم من قبل دولة عربية خارجة من الاحتلال صعدت تجربتان كبريان في المنطقة: إيران وتركيا، وكلا التجربتين قدّمتا إجابات تحاول حلّ قضايا الهويّة والتراث والتقدّم، الأولى عبر ثورة شعبية عارمة، والثانية عبر نضال مدنيّ طويل الأمد، وانتهت التجربتان بإيصال نسختين متفارقتين من الإسلام السياسي إلى الحكم.
استطاعت تركيّا بعد أكثر من 90 عاماً على تأسيس جمهوريتها، ومن خلال تجربة حزب «العدالة والتنمية» (التي هي بالأحرى إعادة تأسيس لجمهورية أتاتورك) من إعادة العلاقة العضوية الجريحة والقاسية مع العرب (ونتحدث هنا عن الشعوب العربية خصوصاً)، ولكنّها لم تستطع إعادة العلاقة العضوية بين مكوّناتها الداخلية، وخصوصاً مع الأكراد الذين كانوا تعرّضوا، مثلما تعرّض تيّار الإسلام السياسي، إلى اضطهاد.
لكن تركيا التي خرجت من حرب الاستئصال بين العلمانيين والإسلاميين، بجواب حديث يلبّي قضايا الهوية، من جهة، وقضايا الحداثة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، من جهة أخرى، لم تستطع، لا هي ولا أكرادها، اجتراح حلّ تركيّ للمسألة الكردية، الأمر الذي ألقى بظلاله الكبيرة اليوم على تركيا وانتخاباتها.
النتائج الأخيرة للانتخابات التركية، إذا تمّ تأكيدها، تظهر أن الحلّ الديمقراطي، الذي نجح الإسلاميون في خوض غماره لصالحهم، سيكون العتلة التي يدخل منها الأكراد أيضاً، الذين استطاعوا تجاوز نسبة العشرة بالمئة اللازمة لدخول البرلمان، وهو ما يمكن أن يؤسس لإمكانية تصالح مظلوميتي الإسلاميين والأكراد، وخروج تركيّا من عنق الزجاجة التي سجنها العسكر فيها باسم العلمانية والوطنية التركية.
وإذا كانت آمال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي علّقها على الانتخابات الأخيرة قد أفشلت خططه لتحويل نظام الحكم في تركيا إلى نظام رئاسيّ فإنّها أثبتت أهليّة الجمهورية التركية العتيدة في التطوّر والانتقال من طور إلى طور أكثر تقدّما وحداثة وإنسانية.
غير أن ربح أردوغان الكاسح، لو حصل، ما كان بالتأكيد قادراً على تهديم أركان الجمهورية التركية، كما أن خسارته النسبية لا تعني بالتأكيد أن تركيّا غير قادرة على الفعل من غير صلاحيات كبرى في يد الرئيس.
بهذا المعنى فإن الخسارة التكتيكية هي ربح استراتيجي لتركيا، وحكومة الأقلّية المتوقعة قد تكون أكثر قدرة على تمثّل وتفهم التنوّع التركي.
تقدّم الانتخابات التركية الأخيرة طوراً جديداً من التحوّل يعد بتحويل الشرنقة مجدداً إلى فراشة متعددة الألـوان، فيما نهبط نحن العرب إلى هاوية جديدة تتناظر فيـهـا مجـددا إعادة تأسيس الجمهورية التركية مع دخول العرب في محنة كبرى، وهو أمر علينا، نحن العرب، الذين تنهار بلدانهم ودولهم ويتفككون إلى شيع ومذاهب وطوائف وملل وإثنيات ويخزنون أسلحتهم لحروب أهلية مديدة لن تبقي ولن تذر، أن نتمعّن فيه كثيراً.